لطالما دار جدل واسع بين الإسلاميين حول تحكيم الشريعة، وما يدخل فيها، وما هو خارجها، والتدرج في تطبيقها وآليات ذلك، إلى آخر هذا الجدل المكرور، وليس ثمة جديد، سوى ما أبدعه
حزب النور مؤخرًا؛ فهذا الحزب الذي ينسب نفسه إلى تيار متهم بالجمود، ورفض التجديد، يثبت أنه قد أتى بجديد، لم يناوش غيره من الإسلاميين حتى في أحلامهم، فالتجديد الذي ابتدعه الحزب وبكامل طاقته واندفاعه يتعلق بالعقيدة، وتحديدًا في قضية تحكيم الشريعة.. نعم جديد في العقيدة، من حراس العقيدة!
الرقم الكودي، لهذا التجديد، هو (219)، أي رقم المادة في دستور العام 2012، التي فجرت الجمعية التأسيسية المنتخبة، وساهمت في خلط المشهد
المصري، والدفع نحو استقطاب هوياتي، بين الإسلاميين والعلمانيين، انتهى باختطاف الدكتور المنتخب محمد مرسي، والانقلاب على الشرعيات الثلاث التي اجتمعت في شخص هذا الرئيس المظلوم: (الثورية، والانتخابية، والدستورية)، ويكفي ابتعادًا عن التجني، حينما نؤكد أن الرقم (219) رقم كودي لعملية أمنية استخباراتية، لا رقمًا لمادة في الدستور المنقلب عليه، أن نستدل بأن حزب النور كان حاضرًا بقوة، بالصوت والصورة، في اجتماع إعلان الانقلاب، خلف الجنرال الذي صرح لـ «الواشنطون بوست» في بدايات الانقلاب، بأنه انقلب على رئيسه المنتخب، لأن أيديولوجيا الإخوان المسلمين تتجاوز الدولة الوطنية الحديثة وتهدف إلى إقامة إمبراطورية إسلامية. ويمكنك أن تضع في قلب هذا التبرير للانقلاب، أن الجنرال يريد الحفاظ على علمانية مصر، وعلى حدودها القومية المصطنعة استعماريًا، وبتفسير دقيق، لما قاله الجنرال، فإنه كان يحارب تحكيم الشريعة.. حسنًا، كان حزب النور حاضرًا بقوة خلف الجنرال العلماني وهو يلغي الدستور الذي تضمن أبرز إنجازات الحزب التي افتخر وزاود بها على غيره من الإسلاميين، أي المادة 219، فكيف ينقلب الحزب على مصدر فخره، ومبرر وجوده السياسي، أي حراسة العقيدة!؟
هل تخلى حزب النور، عن مصدر فخاره، ومبرر وجوده بعد الانقلاب؟! ظاهر الأمر لا، فالحزب بعد الانقلاب رفع شعار "219 هوية شعب"، وذلك لتعزيز التمايز عن الإخوان المسحوقين في الشوارع والسجون، وللبحث عن يافطة يدلس بها على حقيقة موقعه الجديد، فهو ما انقلب على المادة 219 إلا لأجلها، وما خذل المظلومين من إخوانه إلا لتطبيق الشريعة! نعم هكذا!
تزامن اصطناع الحزب لهذا الشعار "219 هوية الشعب" مع رفع المسحوقين الصامدين لشعار رابعة، وبمعنى مباشر، فإن الشريعة الإسلامية حسب الحزب، والتي هي هوية الشعب أيضًا، تعني الكف عن مناصرة المظلومين، بل الاصطفاف في القلب من ظالميهم، وازدراء الدماء المسفوكة ظلمًا، ولو كانت دماء الآلاف، وفي وضح النهار، وفي بث حي ومباشر شاهده العالم، بما لا يدع مجالاً للالتباس أو تعدد الروايات، بل وفوق ذلك تحميل القتلى المسؤولية عن قتلهم، وبهذا فإن الحزب يحول الشريعة من العدل إلى الظلم، ويخرج عمليًا من كتاب الله قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا}، والحزب بطبيعة الحال، وبكل موضوعية، وبعيدًا عن التجني، لم يكن إلا في صفوف القتلة، يغطي عليهم ويبرر لهم، بل ويثني عليهم، وعلى لسان عظيمهم كبير حراس الشريعة، ياسر
برهامي! فإن لم يكن هذا تجديدًا في العقيدة فماذا يكون!
ولعل أحدهم يحسن الظن بالحزب، ويقول؛ ما فعل الحزب ذلك كله إلا مراوغة عبقرية، للحفاظ على المادة (219)، وإبقاء منفذ للدعوة الإسلامية، بحيث لا يُقمع الإسلاميون كلهم، بيد أن هذا المسكين الهاذي بعبقرية برهامي، التي تشبه أسطورة "أخطر رجل في مصر" التي أطلقها مريدوه حينما حل تنظيم الدعوة السلفية في أواسط التسعينات في صفقة مع أمن الدولة مقابل السماح له باستمرار التدريس في المساجد، لا يلبث أن يصطدم بتخلي الحزب عن المادة (219)، أو بصيغة مباشرة، بتخليه عن "هوية الشعب"، واعتباره مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا كمرجعية لتفسير مادة مبادئ الشريعة في الدستور، أفضل من المادة (219)، علمًا بأن الحزب، وعلى لسان كبير حراس الشريعة، كان قد قرر أن هذه المحكمة العلمانية غير مؤتمنة على تفسير المادة الثانية، وأن حكمًا لهذه المحكمة فرغ المادة الثانية من مضمونها تمامًا، ولذلك كان يصر على مادة مفسرة، وعلى مرجعية الأزهر لفحص موافقة القوانين للشريعة!
الحزب؛ سوغ ذات مرة مشاركته في الانقلاب، بالحرص على استمرار وجودهم وقوتهم للحشد للتصويت بـ (لا) على الدستور في حال أسقط مواد الهوية، فلا تتعجب الآن إذا علمت أن الحزب يدعو للتصويت على الدستور المسقط لـ "هوية الشعب" بـ (نعم)، ذلك أن الحزب في مهمة أمنية، رقمها الكودي 219، وحل الشيفرة لدى ياسر برهامي!