يذكر أندرو مانغو، كاتب سيرة مصطفى كمال (أتاتورك)، في نهاية واحد من أفضل الكتب التي درست حياة وأعمال مؤسس الجمهورية التركية وقائد حرب استقلالها، أن الزعيم التركي الكبير قام بجولة في محافظات الجمهورية قبل نهاية حياته بقليل في 1938.
عاد مصطفى كمال من جولته محبطاً، بائساً، ليس لأن الشعب، خارج العاصمة أنقرة، لم يستقبله بالترحاب الذي اعتاد استقباله به، بل لمظاهر الفقر والانحطاط الاقتصادي والخمول الاجتماعي التي شاهدها. بعد خمسة عشر عاما على قيام الجمهورية، والوعود الكبيرة التي أطلقتها للشعب، مقابل طاعته وخضوعه لإرادة الدولة في تجليها الجديد، لم يكن ثمة تغيير كبير في أحوال الناس كان يمكن تسجيله أو الاعتزاز به. على العكس، ما رآه الرئيس في جولته كان يوحي بفقدان الشعب لروحه ورغبته في النهوض، بعد أن كسرت الدولة الجمهورية إرادته وطاقة الحرية والإبداع التي لم يكن لمناخ النهضة من الازدهار بدونها.
استندت الدولة الجمهورية إلى جهاز الدولة العثمانية الحديثة، التي ورثها مصطفى كمال ورفاقه بعد أن حققوا النصر في حرب الاستقلال، وحسموا الصراع مع ما تبقى من هياكل عليا لمؤسستي السلطنة والخلافة في إسطنبول. ولكن جهاز الدولة التي ولدت في عصر التنظيمات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، ونضجت مؤسساتها وتبلورت ملامحها في العقود التالية من نهاية التاسع عشر ومطلع العشرين، استمرت كما هي تقريباً، بجيشها وجهاز أمنها وبنيتها وهياكلها الإدارية وقضائها ومؤسستها التعليمية. في الحقيقة، جعلت ‘الإصلاحات’ الجمهورية التي أجريت بصورة حثيثة في سنوات العشرينات من الدولة أكثر سيطرة، ومن قبضتها أكثر إحكاماً. الدولة الحديثة هي بطبيعتها كيان تجريدي، متعال، تحكمي، مهيمن، طبعت على إعادة توليد التحكم والهيمنة والسيطرة. ما قامت به الجمهورية أنها جعلت هذا التعالي والتحكم والهيمنة أكثر حدة، ومن مساحة المناورة بين الشعب ودولته أكثر ضيقاً. هيمنت الدولة الجمهورية كلية على المجال التعليمي، ألغت القضاء الإسلامي التقليدي لصالح مؤسسة القضاء العلمانية الحديثة، وضعت الشأن الديني بكافة تجلياته تحت سيطرتها، بعد أن ألغت مشيخة الإسلام، وجربت لسنوات مع إلغاء مؤسستي الوقف الذري والخيري معاً. بعد سنوات قليلة من قيام الجمهورية، أجبر الأتراك على استخدام لغة جديدة، في خطوة استبطنت سيطرة الدولة الجمهورية على الذاكرة الجمعية للشعب، وفرض عليهم النمط الذي تراه الدولة للباس والمظهر. وفي النهاية، وبعد أن ادعى حزب الشعب الجمهوري الحاكم تجسيده لكافة القوى التي شاركت في حرب الاستقلال، فرض نظام الحزب الواحد لتوكيد التماهي الذي لا ينفصم بين الدولة والسلطة الحاكمة.
خيبة الأمل التي عاد بها الزعيم، الذي أصبح التجسيد الإنساني للدولة الجمهورية، من جولته الأخيرة، جعلته أكثر استعداداً لتلمس ما كان يعرفه كثيرون من الملتفين حوله. وهذا ما أطلق، بهدوء وفي دوائر مغلقة في البداية، الجدل حول الكيفية التي يمكن أن تخفف بها وطأة الدولة عن كاهل الشعب، وأن تتسع مساحة الحرية المتاحة للمجتمع ومبادرة أفراده. بعد شهور من وفاة أتاتورك، اندلعت نيران الحرب الثانية وأجل بالتالي الجدل، وكن ما أن انتهت الحرب في 1945 حتى انتهى ورثة مصطفى كمال إلى إطلاق تعددية حزبية محكومة والتخلي عن الاستبداد الجمهوري لصالح ديمقراطية محدودة. لم تعرف
تركيا أول انتخابات ديمقراطية فعلية إلا في 1950، وظلت طوال نصف القرن التالي تناضل من أجل توطيد جذور النظام الديمقراطي، مرة ضد النخبة الجمهورية المسيطرة على جهاز الدولة، ومرة ضد تدخل الجيش المباشر أو غير المباشر في الحكم. ولكن الدلالة الهامة لتجربة تركيا في حقبة ما بين الحربين لا يجب أن تغيب: بالرغم من تعاليها وسيطرتها ونزعتها التحكمية، فالمفترض أن الدولة الحديثة هي أيضاً كيان عقلاني؛ وعندما تصل الدولة إلى الحائط، عندما تصبح مهددة بالفشل، لابد أن تتخلى عن بعض من تعاليها وسيطرتها ونزعتها التحكمية وتفتح باب التفاوض مع شعبها.
ما يستدعي هذه التاريخ بالغ الدلالة لواحدة من أبرز دول المشرق هو بالتأكيد الحدث
المصري، الذي يبدو أنه أصبح المحدد الرئيسي لمصير العرب جميعاً في العقود القليلة القادمة. وربما من الجدير التذكر دائماً أن ما شهدته مصر في الأيام الثلاثة الحاسمة من 30 حزيران/يونيو إلى 3 تموز/يوليو قد أنجز بقوة الدولة، وليس بفعل المعارضة السياسية لحكم الرئيس د. محمد مرسي. الانقسام في الساحة السياسية المصرية، كما أشرت في هذا المكان من قبل، سبق الثورة المصرية في 25 كانون ثاني/يناير 2011، واستمر بعد إطاحة مبارك؛ كان سمة بارزة للعام الوحيد الذي قضاه مرسي رئيساً، وهو مستمر إلى الآن. تجلي حالة الانقسام السياسي في تظاهرات شعبية واسعة يوم 30 حزيران/يونيو، كان فرصة مناسبة لقيام الدولة بإطاحة رئيسها المنتخب، ولم يكن هو من أطاح بالرئيس. بدون توافق أجهزة الدولة الرئيسية، العسكرية، الأمنية، الإدارية، والقضائية، على وضع نهاية لرئاسة مرسي، ما كانت مصر شهدت الانعطافة الحادة التي شهدتها بعد ثلاثة أيام. للدولة المصرية الحديثة، التي توشك أن تحتفل بالذكرى المائتين لولادتها على يد محمد علي، الدولة بالغة السيطرة والتحكم، كانت ثورة كانون ثاني/يناير حدثاً مزلزلاً. ففي كل الانتقالات الرئيسية في تاريخ الدولة المصرية، سلم نظام الحكم السابق مقاليد السلطة لطبقة حاكمة جديدة، تنتمي لميراث الدولة أو لأجهزتها ذاتها، بما في ذلك ثورة 1952. ولذا، فإن هذه الدولة لم تتعرض للحظة قطيعة واحدة، لا بعد الاحتلال البريطاني، قيام النظام الملكي، أو إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية.
في المقابل، مثلت ثورة كانون ثاني/يناير نهوضاً شعبياً عارماً، تحدى نظام الحكم وإرادة الدولة المتماهية معه في الآن نفسه. صحيح أن الثورة المصرية لم تمس مؤسسة الدولة بأي صورة من الصور؛ وأن المصريين ارتضوا، بمجرد إعلان الرئيس مبارك تنحيه عن منصبه، طريقاً دستورياً قانونياً للمرحلة الانتقالية، على أن تجري عملية إصلاح عميقة وشاملة لأجهزة الدولة بصورة تدريجية، وبدون اللجوء لصدام دموي، وطويل، وباهظ التكاليف. ولكن هذه العملية لم تبدأ بصورة فعالة قط. كل الطبقة السياسية المصرية نشأت في ظل الدولة الحديثة، نمط تعليمها، ثقافتها، إعلامها، ونظامها العدلي والدستوري؛ ولكن الدولة لا تنظر إلى كافة فئات هذه الطبقة نظرة واحدة ولا بصورة متساوية. طوال ما يقارب القرن، رأت الدولة قوى التيار الإسلامي السياسي، والإخوان المسلمون، أولى جماعات هذا التيار، باعتبارها قوى خارجة، معارضة راديكالية، لا موقع لها سوى هامش المجال العام أو السجن. ولذا، فقد شكل فوز مرسي في الانتخابات الرئاسية ليس مجرد صدمة وحسب، بل وتحدياً لميراث الدولة، ولشبكة العلاقات والمصالح بالغة التعقيد التي استندت إلى هذا الميراث. أظهر مرسي خلال عامه الأول، بداية من إطاحة قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في آب/أغسطس، مروراً بالإعلان الدستور المكمل في تشرين ثاني/نوفمبر، والتخلص من عدد ملموس من رؤساء بعض من أهم مؤسسات الدولة، وصولاً إلى مشروع إصلاح المؤسسة القضائية، عزمه حماية إرادة الناخبين في مواجهة أجهزة الدولة، وإطلاق مشروع الإصلاح لمؤسسات هذه الدولة. ولكن الدولة كانت أسبق إلى حسم المعركة مع الرئيس المنتخب، الرئيس الغريب على ميراثها، وخطابها، وروحها.
بيد أن الأمور منذ إطاحة مرسي لم تسر على ما يرام. صحيح أن الفترة الزمنية التي مرت حتى الآن قصيرة نسبياً في حياة الدول، ولم تصل ستة شهور بعد، ولكن المؤشرات المتوفرة الآن كافية للدلالة على ما يمكن أن يكونه مستقبل مصر في المدى المنظور. لم يزل الشعب المصري منقسماً، بالتأكيد، ولكن القطاعات الشعبية والقوى السياسية المناهضة لنظام 3 تموز/يوليو، والتي تراه تهديداً لمكاسب الثورة الديمقراطية في 25 كانون ثاني/يناير، في اتساع. لم تتوقف المظاهرات الاحتجاجية المعارضة طوال الفترة منذ إطاحة مرسي يوماً واحداً؛ وبانضمام الجسم الطلابي الجامعي لحركة المعارضة، وعودة الإضرابات الفئوية إلى الساحة، لا يبدو أن مصر مرشحة للاستقرار قريباً. من جهة أخرى، يرتكز الاقتصاد المصري، كما هو معروف، إلى قطاعات رئيسة، تشمل: دخل قناة السويس، تصدير السلع المصنعة ومواد الخام، تحويلات المصريين في الخارج، السياحة، والاستثمارات الأجنبية. وطبقاً للأرقام المصرية الرسمية، خلال العام الذي تولى فيه مرسي إدارة البلاد، والذي يتطابق في 11 شهراً منه مع السنة المالية المصرية، تحسنت مؤشرات هذه القطاعات جميعاً بصورة ملموسة. في المقابل، وبالرغم من 12 ملياراً من الدولارات، التي ضختها ثلاث دول عربية خليجية في الاقتصاد والمالية العامة المصرية (وهو رقم من المساعدات غير مسبوق في خمسة أشهر من تاريخ مصر)، تراجعت المؤشرات السابقة كلها تقريباً في الأشهر القليلة الماضية. المؤشر الوحيد الذي لم يزل محافظاً على مستوياته، ولأسباب لا تتعلق بأوضاع البلاد، هو دخل قناة السويس. أرقام البطالة المصرية وصلت إلى معدلات خطرة، مئات من المصانع أقفلت، عشرات الفنادق السياحية الكبرى أغلقت أبوابها، ادعاءات كبار رجال الأعمال المصريين في رفع مستويات استثماراتهم في وطنهم لم تتحقق، وأرقام الاحتياطي المالي عادت إلى التراجع الشهري بنسب مقلقة، بعد الارتفاع المؤقت بفعل الودائع والمساعدات العربية.
لم يحدث أن استطاع مجتمع منقسم على نفسه النهوض. وكما أدرك مصطفى كمال، متأخراً، قبل ثلاثة أرباع القرن، ليس للدولة أن تتوقع من شعب أثقلت كاهله بوطأتها، كسرت روحه وأخضعت إرادته، أن ينهض، ولقوى الإبداع في داخله أن تنطلق. حفنة المثقفين والإعلاميين المصريين الجهلة الذين يشجعون على استعلاء الدولة، ويدفعون باتجاه حل أمني وقمعي لمشاكل البلاد المستعصية، يأخذون الدولة المصرية إلى الهاوية. في لحظة الأزمة المستحكمة، والاندفاع المستمر إلى الحائط، على الدولة المصرية استدعاء ما تبقى من عقلانيتها، وتبدأ مفاوضات جادة مع شعبها.