الانقلابات العسكريـة حالة أصيلة في عمليات التحولات السياسية في العصر الحديث، وهي عملية تغيير للنظام السياسي ويتبعها تغيير لكافة الأوضاع والانماط السائدة في البلاد بعملية سريعة تستخدم فيها القوة والسلاح. فالدولة الحديثة احتكرت السلاح والقوة، وبمجرد السيطرة على هذا السلاح من قبل طرف في المجتمع أو أقلية أو طبقة اقتصادية أو سياسية خارج إطار "العقد الاجتماعي" للدولة يُمكِن لهذه الطبقة تأميم كافة قطاعات الدولة لصالحها، بحكم أن المجتمع غير مسلح. فقد نُزعت قوته لصالح الدولة بمنطق أن نزع السلاح هذا واحتكاره جاء بناء على أنه سيستخدم وفق تعاقدية الحكومة والشعب.
ولكن بعد ظهور الشعوب والجماهير في المعادلات السياسية كفاعلين أساسيين في إحداث التحولات، كان على الانقلابات العسكرية والقائمين عليها أن يراعوا أمزجة الشعوب وحالتهم النفسية وتوجهات الرأي العام في إطار عملية الانقلاب. فالانقلاب هو عملية انتقال لحظي سريع من وضع لآخر مما قد يتسبب في اضطراب اجتماعي ونفسي كبير داخل بيئة المجتمع، وغالبا يكون هذا نتيجة لأن المجتمعات لاتعرف التحولات اللحظية السريعة وإنما تتغير المجتمعات وأنماط سلوكياتها ببطء، كذلك على نفس النمط تكون التحولات الاقتصادية الكبرى والسريعة، ولذلك وضع منظرو الانقلابات العسكرية والانقلابات الاقتصاديـة على السواء "دليلا نفسيا" لإدارة مرحلة الانقلاب لتيسير عملية فرض النمط الجديد وكذلك تلاشي آثار الاضطراب الاجتماعي والسياسي لمرحلة الانقلاب.
في حالة "الانقلاب
المصري" (وهي حالة تعتبر غريبة قليلا في أنماط الانقلابات العسكرية فالانقلاب الأخير في مصر لم يكن عملية تحول من نظام لنظام جديد بل عملية استعادة النظام من فك عملية تحول "محتملة" وليست حاصلة بالفعل) هي بالأحرى كان عملية "تمثيلية" لحالة تحول "مفترضة قامت به الأجهزة التي كانت تدير البلاد فعليا منذ 60 سنة من إحداث حالة تعاون كامنة بين النظام القائم الذي تعرض لهجمة شرسة في مظاهرات 25 يناير في محاولة لإسقاطه، وتم تصنيف أطراف القوة في محاولة إسقاط النظام وتصفيتها مع إعطاء الجماهير مكاسب "جزئية" لإيهامهم بنجاح حالتهم ومطلبهم. ولكن الحقيقة الراسخة أن نظاما لم يسقط أبدا وإنما ما حدث أنه مر بحالة ضعف في "شعبيته" جراء يناير مما اضطره لتقديم تنازلات لكنها لم تمس أبدا سطوته على البلاد وسيطرته عليها وإنما كانت تنازلات في الواجهة السياسية التي كان يتصدرها.
لم يكن هناك على الحقيقة نظام سياسي تم الانقلاب عليه، بل هو عملية "نفسية" تأديبية وتهذيبية لرغبات الشعب وطموحاته وتوجهاته تقوم على أساس انسحاب الأجهزة القمعية من الإدارة "الظاهرية" لأمور الدولة وتسليمها للخصم الذي يصل لموقع الإدارة الظاهرية في مناخ "أشبه" بالحر تم السماح به والمستهدف تشويهه لاحقا، ثم بعد أن وصل لهذا الموقـع من الإدارة اكتشف أنـه لا يمتلك من أدوات القوة شيء، وأن هذا الموقـع في الحقيقة لم يكن إلا تعبيرا عن منظومات "مصالح" لكيانات كبرى وليس منظومة "فرد" او حاكم مطلق بسقوطه تنهار المنظومة! إن الفرد الذي كان يتموضع على كرسي السلطة لم يكن في حقيقته مستمدا شرعية وجوده من "شعب" بالضرورة ولا من قوته كفرد، بل من خدمته لمصالح المنظومات الكبرى الداخلية والخارجية، وعندما أصبح غير قادر على إدارة ذلك أمام ضعفه تجاه طموحات ولده الذي كان يشكل منظومة صاعدة تنافـس سطوة المنظومات القائمة؛ تم التضحية به فورا وبابنه.
ثم تمت عملية إدارة للصراع بعد ذلك، ولم يكن من الممكن تشويه الحريـة التي طلبتها الشعوب إلا بإيهام الشعوب تحققها في الواقع، ثم البدء في عملية تقبيحها ليس بالتنظير والكلام وإنما بتوجيه جسد الدولة من وراء الستار لإثارة الفوضى المنظمة من قبل منظومات الأمن والقوة عبر انسحابها من العمل الظاهري لضبط الأمن إلى العمل "الباطني" لقلقته وإثارة حالة مطلقة من الفوضى. كان الانسحاب الظاهري من الإدارة كافيا في نظر الشعب لإعفاء تلك المنظومات من المسؤولية عن كل تلك الفوضى، وكان الوصول "الظاهري" لموقع السلطة كفيلا بتحميل صاحبها مسؤولية كافـة تلك المظاهر والقلاقل، بل وليس مجرد تحميل صاحبها تلك المسؤولية بل تعدته لتحميل "الحريـة" نفسها مسؤولية ذلك، ليصبح محبوب الأمـس مكروه اليوم. وما إن اتسعت رقعة الفوضى "المنظمة" وبجوارها أيضا الفوضى "الطبيعية" نتيجة السماح بها أيضا، حتى أصبح الشارع يتوق إلى كبت "الماضي" بالتوازي مع عملية تشويه الحاضر، ولم تكن الفقرة الختامية لكل ذلك إلا إعلان توبة الشعب عن محاولة طلب الحرية لينزل في شوارعها كما نزل سابقا مطالبا بإلغاء هذه المرحلة.
وهذه عملية نفسية عميقة وكبيرة لم تكن لتتم لولا "سذاجة" فريق كبير ممن أشرف على محاولات التحرر وممن ظن في نفسه إدارة مرحلة التغيير، ولولا جهل أغلب قطاعاتنا بحقيقة أن هذه الدولة بشكلها الحالي لا يمكن أن تسقط مثل هذا السقوط الناعم. إنها صلبة جدا وقويـة جدا مما يمكنها من إدارة عمليات من هذا النوع، وفي ظل فرحة الجماهير باقتحام مباني أمن الدولة، أعتى أجهزة الأمن السياسي والقمعي في مصر، كان هذا الجهاز يدير عملية تجسس واسعة على مكالمات النشطاء والثوريين لتوجيهها لاحقا لتشويههم وضربهم في مراحل لاحقة.
ليس كل هذا محاولة لتيئيس الناس أو صرفهم عن محاولات التغيير، وإنما محاولة جادة مني لتيئيس الناس من "قصر الأمل" و أطماع التغيير القصير المدى، والانخداع بالتحولات الوهمية غير الحقيقية، وبالحيل النفسية والحرب النفسية للنظام الأمني في محاولة منه دائمة لضرب الصراع وحصره في عناوين خادعـة. إن انقلابا في مصر لا يترنح لأنه في حقيقته لم ينقلب على نظام صلب متجذر، بل هو في حقيقته النظام المتجذر، وليس بموت شخص فيه ينهار، لأنه ليس منظومة فرد بل منظومة مصالح كيانات كبرى داخلية وخارجية، ولا ينهار بالاندماج فيه لأنها عملية انخداع كبرى أثبتت فشلها.