العسكر هم من أسسوا
تركيا الحديثة ونظامها الجمهوري، وهم كذلك من وضعوا دساتيرها إلى الآن بداية من دستور 1924، ثم دستور 1961، وانتهاء بالدستور الحالي 1982.
وكان الانقلاب العسكري الأول عام 1908 هو الانقلاب الذي أعلن الدستور العثماني عام 1908، وخلع السلطان عبد الحميد الثاني وأجلس ضباط جمعية الاتحاد والترقي في سدة الحكم، إلى أن زجوا بالدولة العثمانية في أتون الحرب العالمية الأولى، وخرجت منها منهزمة ممزقة الأشلاء.
إن الإدارة السياسية الناجحة لشخصية رجب الطيب أوردغان خلال السنوات العشر الماضية في شؤون السياسة الداخلية والخارجية وبناء اقتصاد قوي، كان لها تأثيرها الإيجابي في تعزيز الديمقراطية وحماية الحريات وحقوق الإنسان، ما جعل المواطن التركي يثق في الإدارة السياسية ويدعم تقليص دور العسكر في الحياة السياسية، كما أن المؤسسة العسكرية ذاتها لم تعد تشعر بذات القلق من الإدارة السياسية القائمة تجاه مبادئ الجمهورية ونظامها العلماني.
أوردغان.. تفكيك قبضة العسكر
ثمة عدّة عوامل أدت متظافرة إلى نجاح حزب العدالة والتنمية في تركيا هي حاجة المجتمع الدولي ممثلا في الولايات المتحدة وأوروبا إلى تبلور وانتشار تيار إسلامي وسطي مَرِن، قادر على ضبط معادلة القوى السياسية في منطقة الشرق الأوسط, وتحقيق البرنامج الإصلاحي الأردوغاني كان أيضا عاملا أساسيا من عوامل نجاح حزب الحرية والعدالة فضلا عن وقوف تركيا عتبة بدء مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي.. وبهذا الشكل أصبح مدعوما دعما قويا؛ إذ إن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي "مطلب قومي أتاتوركي" في الأساس ثم هو مطلب النُخب العلمانية والليبرالية، وأخيرا هو أيضا مطلب شعبي من أجل حياة اقتصادية أكثر رفاهية.
وعلى الجانب الآخر فإن المؤسسة العسكرية كانت تدرك تماما أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يُعَد سحبا لكافة سلطاتها السياسية ولقوتها الاقتصادية الخاصة، ويعني أيضا إعادة تنظيم وضعيتها الدستورية وفق المعايير الأوروبية. غير أنها لم يكن باستطاعتها البوح بذلك، والجهر بمعارضتها لمطلب قومي أتاتوركي، وبالتالي فهي لن تقف حائلا أمام الإصلاحات التي سيقوم بها حزب العدالة والتنمية وفق متطلبات برنامج الإصلاح الأوروبي.
ومن ثم أخذ أردوغان خطوات جادة واضحة محددة نحو إعادة هيكلة مؤسسات تركيا وتشريعاتها الدستورية والقانونية للتواؤم مع معايير كوبنهاجن نحو ترسيخ قيم الديمقراطية وتعزيز دولة القانون. وعليه قام رجال القانون الأتراك بصوغ عدد من القوانين الجديدة التي يتم بمقتضاها إجراء تعديلات دستورية أو قانونية، وأُطلق عليها "حزم قانونية للتواؤم مع الاتحاد الأوروبي"، بلغ مجموعها سبعة حزم قانونية.
خطوات ديمقراطية لإبعاد العسكر عن السياسية
ما إن شرعت تركيا فى اتخاذ خطوات جادة للوفاء بمعايير كوبنهاجن بدأ الاتحاد الأروبي في إعداد تقارير متابعة لأداء تركيا, وتركزت التقارير حول أوجه القصور فى العملية الديموقراطية فى تركيا, وركزت تقارير الاتحاد فى عام 1998 إلى 2001 حول نفوذ المؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية من خلال المجلس الأمن الوطني وطلب الاتحاد إلى تحويل المجلس إلى مؤسسة استشارية للحكومة. كما وعدت بأن تبدأ مفاوضات بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي فور انتهاء تركيا من إنجاز طلبات الاتحاد الأوروبي.
وعليه فقد جرت تعديلات دستورية في 30 تشرين الأول / أكتوبر 2001 شملت (37) مادة دستورية كان من ضمنها المادة (118) الخاصة بمجلس الأمن الوطني؛ فوسعت التعديلات من عدد أعضاء مجلس الأمن الوطني؛ حيث تم إدراج عضوية وزير العدل ونائبي رئيس الوزراء، وهي إضافة رجحت كفة المقاعد المدنية داخل المجلس من الناحية العددية. كما شملت التعديلات طبيعة قرارات مجلس الأمن الوطني؛ فتم إلغاء نص "يراعي مجلس الوزراء قرارات المجلس بعين الاعتبار الأولى"، وتحول إلى "يقوم مجلس الوزراء بتقييم قرارات مجلس الأمن الوطني".
ومع وصول أردوغان إلى سدة الحكم في بدايات عام 2003 باستصدار حزم قانونية جديدة بهدف إعادة هيكلة المؤسسات، واستصدار تشريعات متوافقة مع معايير كوبنهاجن، غير أن الحزمة القانونية السابعة التي صادق عليها البرلمان التركي في 30 تموز / يوليو 2003 كانت نقطة التحول الأقوى في العلاقة بين العسكريين والمدنيين داخل مجلس الأمن الوطني وأمانته العامة؛ حيث استهدفت الحد من دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية من خلال تقليص وضعيته الدستورية والقانونية.
ولقد تناولت التعديلات الخاصة بمجلس الأمن الوطني وأمانته العامة محورين يفضي كلاهما إلى تقليص وضعية المؤسسة العسكرية داخل الحياة السياسية التركية؛ وهما إلغاء هيمنة المؤسسة العسكرية على بنية مجلس الأمن الوطني، وتقليص سلطات المجلس التنفيذية.
فقد تم تعديل المادة (15) من قانون مجلس الأمن الوطني وأمانته العامة؛ حيث تم إلغاء البند الخاص بوجوب تعيين الأمين العام لمجلس الأمن الوطني من بين أعضاء القوات المسلحة برتبة فريق أول أو فريق أول بحري لتنص بعد تعديلها على إمكانية تولي شخصية مدنية لمنصب الأمين العام للمجلس. وبالفعل، فمع انتهاء فترة ولاية الأمين العام للمجلس تم تعيين "محمد البوغان" في 17 آب / أغسطس 2004، ليكون بذلك أول شخصية مدنية تتولى منصب الأمين العام لمجلس الأمن الوطني.
وقد تم تعديل المادة الرابعة التي كانت تُكلف المجلس وأمانته العامة بمهام المتابعة والتقييم الدائم لعناصر القوى الوطنية، وكذلك متابعة أوضاع الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتقنية انطلاقًا من أن المجلس هو الحامي للنظام الدستوري، والقائم على توجيه القيم الوطنية نحو المبادئ الأتاتوركية؛ فاقتصرت المادة الرابعة بعد تعديلها على أن مهمة المجلس هي رسم وتطبيق سياسة الأمن الوطني، وأن يقوم مجلس الأمن الوطني بإخبار مجلس الوزراء بآرائه ثم ينتظر ما يسند إليه من مهام ليقوم بتنفيذها ومتابعتها.
وبهذه الكيفية يكون مجلس الأمن الوطني وأمانته العامة قد تحولا إلى جهاز استشاري وفقدا إلى حدٍ كبير وضعيتهما التنفيذية.
كما أن المادة رقم (13) التي تحدد مهام الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني قد تم تعديلها أيضا على نحو جعلها تفقد دورها الرقابي ومبادرتها في إعداد قرارات مجلس الأمن الوطني ووضع الخطط والمشروعات للوزارات والهيئات والمؤسسات؛ لتصبح مهمة الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني قاصرة فقط على "تنفيذ ما يكلفها به المجلس من مهام".
أما إلغاء المواد أرقام 9، 14، 19 فقد سحب من الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني حقها في الحصول على المعلومات والوثائق السرية بكل درجاتها عند طلبها من الوزارات والمؤسسات العامة والهيئات ورجال القانون. كما تم إجراء تعديل على المادة رقم (30) من قانون الجهاز المحاسبي التي كانت تعفي الكوادر العسكرية من الخضوع للرقابة المالية؛ لتصبح المؤسسة العسكرية وكوادرها خاضعين لإشراف ومراقبة الجهاز المركزي للمحاسبات.
وبتعديل دستوري آخر في آب / أغسطس 2004 تم إلغاء الفقرة الخاصة بعضوية الجنرال العسكري داخل اتحاد الإذاعة والتليفزيون. وكما تم إجراء تعديل دستوري بتاريخ 7 أيار / مايو 2004 على المادة 131 الخاصة بالمجلس الأعلى للتعليم حيث تم إلغاء عضوية الجنرال العسكري من داخل مجلس إدارة المجلس الأعلى للتعليم, وبهذا أصبح، ولأول مرة، المجلس الأعلى للتعليم، واتحاد الإذاعة والتلفزيون مؤسستين مدنيتين بالمعنى التام، دون وجود أي رقيب عسكري.
وشملت
التعديلات الدستورية والقانونية أيضا السماح برفع الدعاوى القضائية لاستجواب ومقاضاة الجنرالات القدامى بشأن قضايا الفساد، والسماح للعسكريين بالإدلاء بالتصريحات الإعلامية فقط في المجالات التي تتناول الشأن العسكري والأمني، وتحت إشراف السلطة المدنية أيضا، وكذلك تم إلغاء إمكانية محاكمة المدنيين داخل المحاكم العسكرية.
غير أن قرار حزب العدالة والتنمية بترشيح وزير الخارجية عبد الله غول لمنصب رئيس الجمهورية قد أثار مخاوف رئاسة الأركان، ودفعها لنشر بيان على موقعها الإلكتروني في 27 نيسان / إبريل 2007 أبدت فيه تخوفها على مصير الجمهورية العلمانية. فما كان من أردوغان إلا أن أطلق تصريحا دعا فيه الجيـش إلى الالتزام بمهامـه العسـكريـة، وعدم التعرض للشـأن السـياسـي مطلقا؛ فرفعت رئاسـة هيئـة الأركان صباح اليوم التالي إنذارها من الموقع. ثم اسـتصدرت الحكومـة قرارا بمنع العسـكريين من الإدلاء بتصريحاتٍ شـفهيـة أو مكتوبـة تتعلق بالشـأن السـياسـي. ويمكن القول: إن هذا "الإنذار الإلكتروني" كان آخر مناوشات المؤسسة العسكرية لاستعادة ممارسة دورها السياسي.
وإزاء كل هذه التعديلات التي جرت على الوضعية القانونية للجيش ومن ثم دوره في الحياة السياسية، توارى الجيش في ثكناته واستسلم لوضعيته الجديدة واكتفى بدوره العسكري.