تركيا أمام ثلاثة استحقاقات انتخابية محلية ورئاسية وبرلمانية متلاحقة والصراع سيكون على نجاح «العدالة والتنمية» في الاحتفاظ بالسلطة أو تراجعه لصالح الأحزاب المعارضة، التي تبحث عن إزاحته حتى ولو كان الثمن ائتلافا حكوميا يعيد تركيا إلى أجواء مطلع الألفين.
رجب طيب إردوغان في اليوم التالي لإعلان نتائج
الانتخابات البلدية أي بعد شهر تقريبا سيكون أمام خيارين الأول هو الترشح للانتخابات الرئاسية في أغسطس (آب) 2014 التي ستنظم لأول مرة بالاقتراع العام المباشر في حال حقق حزبه انتصارا انتخابيا كبيرا على منافسيه، أو الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة عن موعدها المعلن في العام المقبل في محاولة لاسترداد ما خسره من نفوذ وقوة.
فشل إردوغان في ليلة الثلاثين من مارس (آذار) سيعني على الفور تحريك سيناريو تعديل النظام الداخلي لحزب العدالة والتنمية، الذي حصر عدد الولايات المتتالية لقياداته السياسية في البرلمان والحكومة بثلاث فترات غير قابلة للتمديد، وهي عقبة أمام إردوغان وضعها هو بنفسه في طريقه باسم الديمقراطية الحزبية والتجديد والتغيير ومنح الشباب الفرص التي يحتاجونها لتولي القيادة.
الأيام المقبلة ستكون حافلة بالمفاجآت في تركيا:
قلة هم اليوم الذين سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع في تركيا لصالح المرشح الأوفر حظا في تقديم الخدمات على نطاق البلديات. الغالبية سيكون هاجسها الأول تحقيق الانتصار السياسي والحزبي على الطرف الآخر، إما لتمكين الحزب الذي تدعمه من أجل البقاء في السلطة أو محاولة إسقاط الحزب الحاكم، وإيصال البديل الذي ترى فيه فرصة لتغيير المشهد السياسي في البلاد.
في هذه الانتخابات ستتنافس الآيديولوجيات قبل تنافس قدرات ومؤهلات المرشحين ووعودهم الانتخابية. مهرجانات رجب طيب إردوغان المتلاحقة في المدن التركية وحديثه وأسلوبه وطريقته في طرح المسائل وما يقابلها من مواقف تصعيدية وعمليات حشد وتعبئة تعكس هذه الحقيقة، مهما حاول البعض إخفاءها في الحكم أو في المعارضة.
سنعرف ثانيا إذا ما كانت جماعة فتح الله غولن لقمة سهلة على إردوغان وحزبه يطيح بها بمثل هذه البساطة، بعد عقود من العمل والتوسع والانتشار وبناء منظومة واسعة من العلاقات داخل تركيا وخارجها، أم أن الجماعة هي التي ستلقنه الدرس من خلال لعب أوراق سياسية وإنشاء تحالف مع أحزاب المعارضة يشمل الدعم المادي والمعنوي والاستفادة من اللعب بأوراق بعض القوى الخارجية، التي تريد إبعاد إردوغان وحزبه عن السلطة.
في مطلع أبريل (نيسان) المقبل ستدخل تركيا في سجال سياسي جديد حول تقاسم النفوذ والمدن وإعلان الانتصارات من قبل كل جانب، بحسب قراءته لنتائج الانتخابات المحلية. الأرقام والنسب ومجموع الأصوات لن تكفي لإعلان النصر. البعض سيلوح بعدد المدن التي فاز فيها ووضعها تحت جناحيه خصوصا المدن الكبرى منها. إسطنبول شبه محسومة لـ«العدالة والتنمية»، وأزمير لـ«الشعب الجمهوري»، لكن المنافسة الحقيقية ستكون في العاصمة أنقرة التي تسلم شؤونها «العدالة والتنمية» لسنوات طويلة، فرشح «الشعب الجمهوري» اليوم سياسيا بخلفية قومية يمينية عله ينجح في استرداد العاصمة من إردوغان وحزبه.
انتخابات هذه المرة قاسمها المشترك الأكبر هو حدوثها في 30 مدينة تركية كبيرة تضم 80 في المائة من مجموع الأصوات البالغ 53 مليونا. مقياس النجاح بالنسبة لـ«العدالة والتنمية» هو نسبة 40 في المائة من مجموع الأصوات مقارنة بآخر رقم سجله في الانتخابات البلدية عام 2009. ومقياس النجاح في صفوف المعارضة هو اللعب بأوراق «جيزي بارك» وحادثة 17 ديسمبر (كانون الأول) وملف الفساد وتراجع سياسة «العدالة والتنمية» الخارجية وتعديل أربعة قوانين تمس العمق الاجتماعي والثقافي والأمني في البلاد. كلا الطرفين يعرف أنها فرصة سانحة لن تتكرر له، لذلك أضرم النار في سفن العودة متحديا ومصعّدا في مواقفه.
الناخب التركي أعطى قراره باكرا كما يبدو وكل ما ينتظره الآن هو يوم الاقتراع للتوجه إلى الصناديق ومعرفة النتيجة. أحداث سياسية وأمنية بالغة الخطورة هي وحدها القادرة على تغيير المواقف والحسابات فهل لدى جماعة غولن ما تخفيه من مفاجأة آخر لحظة ضد إردوغان؟
همٌّ آخر سيتحول إلى ورطة بالنسبة لإردوغان وحزبه، وهو حجم الانتصار الانتخابي الذي سيحققحزب السلام والديمقراطية الكردي وقدرته على تجيير هذا الانتصار كورقة مساومة سياسية ودستورية مع إردوغان في الملف الكردي ومصير عبد الله أوغلان المعزول في جزيرة إيمرالي.
في جميع الأحوال تهم الفساد التي واجهت إردوغان وحزبه قبل شهرين، أيقظته من حلم اليقظة الذي كان يقدم له المشهد المخملي وحظوظه في الاستمرار والبقاء في السلطة لأمد طويل، أمام انعدام البدائل السياسية والحزبية ونتيجة الإنجازات الكبيرة التي حققها لتركيا داخليا وخارجيا.
الحديث يدور اليوم حول إردوغان الذي يكتفي بأربع ساعات من النوم، ويمضي بقية أوقاته في تحضير حزبه وقواعده السياسية لانتخابات محلية. إردوغان يصر على أن تكون انتخابات قول الكلمة الحاسمة في منح «العدالة والتنمية» عشر سنوات أخرى من الحكم، يتخللها إيصال إردوغان نفسه إلى منصب رئاسة الجمهورية بعد ستة أشهر.. فهل يكون لرئيس الحكومة الذي صدمته مفاجأة حجم المخطط واندفاعه طيلة أسبوع كامل، لكنه استطاع لملمة ما تبعثر وتوحيد صفوف الحزب وتحريك الشارع التركي ضد مؤامرة تستهدف تركيا وصعودها وقوتها، قبل أن تستهدفه هو وحزبه كما يقول؟
لسنوات طويلة حقق نموذج إردوغان في القيادة والإدارة، مثالا ناجحا في حكم البلاد ابتداء من عام 2002 وحتى يومنا هذا. وربما هو لذلك يدعو الغيورين على مصلحة البلاد للالتفاف وراء حزبه خلال التوجه إلى صناديق الاقتراع التي ستوضع أمامهم في أواخر الشهر المقبل، لتلقين قوى الدولة داخل الدولة ومن يلعب بورقتها في داخل تركيا وخارجها الدرس المناسب.
أزمة 7 فبراير (شباط) عام 2012 التي مهدت للانفجار الأكبر بتاريخ 17 ديسمبر المنصرم بين رجب طيب إردوغان وحلفاء الأمس في جماعة فتح الله غولن، حملت معها أيضا مسألة المستقبل السياسي لرجب طيب إردوغان، لكن الأمر المفروغ منه هو احتمال أن يتخلى إردوغان عن فرصة وجوده في قمة الهرم السياسي التركي، وأن ينسحب بصمت بسبب الأزمات التي عصفت بتركيا وحزبه في العامين الأخيرين داخليا وخارجيا.
إردوغان أمام خيارين لا ثالث لهما، والاختيار مرتبط مباشرة بنتائج الانتخابات البلدية التي ستشهدها البلاد بعد شهر تقريبا. فوز حزبه الساحق في هذه الانتخابات سيشجعه على الاستعداد لتقديم نفسه كمرشح لرئاسة الجمهورية يخلف عبد الله غل في منتصف أغسطس المقبل. أما تراجع حزبه لصالح المعارضة فسيعني تحركه لخوض مواجهة «عليّ وعلى أعدائي»، فيعلن انتخابات برلمانية عامة مبكرة من دون انتظار موعد الانتخابات المقرر في منتصف العام المقبل.
بقي أن نقول إن نقاشا آخر سيدور حتما داخل «العدالة والتنمية»، وهو سيظهر إلى العلن، ويشتد على ضوء نتائج انتخابات مارس المقبل حول موقف وردود فعل أقرب أعوان إردوغان مثل بولنت أرينش وحسين شليك وجميل شيشاك، الذين قبلوا لسنوات إعطاء الأولوية لإردوغان في القيادة الحزبية واتخاذ القرارات. القرار الذي سيتخذه غل نفسه إذا ما أصر إردوغان على حقه في إدارة شؤون قصر الرئاسة في شنقية للحقبة المقبلة، سيكون في قلب نقاشات الحزب الحاكم. هل سيكون غل هو الزعيم البديل للحزب أم أنه سيتقاعد ويترك أعوان إردوغان وسط مأزق مَن سيتولى دفة القيادة بعد إردوغان؟
المشكلة الأهم التي تعترض طريق إردوغان وحزبه في جميع الأحوال، هي تنفيذ الوعد الذي أطلقه رئيس الحكومة التركية ويكرره يوميا كأهم أولوياته، وهو القضاء على مَن طعنه من الخلف وتحطيم البنية الموازية أو الدولة داخل الدولة، وهي رسالة مباشرة لغولن وجماعته الذين يستعدون لحرب «رد الصاع صاعين»، كما تقول أجواء الداخل التركي اليوم.
(الشرق الاوسط)