كتب أسعد عبد الرحمن: لعل مسيرة «المفاوضات» الفلسطينية
الإسرائيلية الأخيرة خير شاهد، حيث يتفق قادة الدولة الصهيونية، منذ رئيس وزرائهم الأول «دافيد بن غوريون» إلى رئيس وزرائهم الحالي بنيامين نتنياهو، ومن «اليمين» و«اليسار» على حد سواء، على أن فلسطين التاريخية هي «وطن إسرائيل»، وأن الفلسطينيين أقلية يجب التخلص منهم أو تطويقهم وتهميشهم.
لذا لم ولن توافق أي حكومة إسرائيلية على إقامة دولة فلسطينية حقيقية، أو تقبل الانسحاب من الضفة الغربية بكاملها، وذلك استناداً إلى الأساطير التوراتية والتلمودية الملفقة. وهذا كله، يؤشر إلى «
عقلية القلعة» التي يؤمن بها الإسرائيليون، الوفية لتراث الصهيونية القائم على العنصرية والاستعلاء وأسطورة «شعب الله المختار»، والتي أساسها الخوف من تكرار «عقدة الماسادا»، حين حاصرهم الجيش الروماني سبع سنوات، ما أجبر رجال اليهود في القلعة على اتخاذ قرار غريب لم يفهمه أحد من العقلاء عبر التاريخ: قتل النساء والأطفال والشيوخ ومن ثم الانتحار!
وفي مقال بعنوان «المد يتحول ضد إسرائيل ويسلمها إلى مزيد من النبذ والعزلة»، كتب الصحفي البريطاني «جوناثان كوك» في «ذا بالستاين كرونيكل» يقول: «نادراً ما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو محاصراً سياسياً على هذا النحو. وتشير محنته إلى عجز اليمين الإسرائيلي عن الاستجابة للمشهد السياسي المتحول، سواء في المنطقة أو في العالم الأوسع. ويتلخص سياق متاعبه في التزامه في عام 2009 بدعم إقامة دولة فلسطينية، تحت ضغط من الرئيس الأميركي المنتخب حديثاً، باراك أوباما. وكان ذلك تنازلا لم يرغب أبداً في تقديمه، وقد ظل يندم على تقديمه منذ ذلك التاريخ». ويضيف كوك: «لكن نتنياهو يبقى، رغم الإشارات الخارجية، أقل وحدة مما يبدو، وبعيداً كل البعد عن الاستعداد للتسوية. إن لديه الجزء الأكبر من الجمهور الإسرائيلي وراءه، بمساعدة من أباطرة الإعلام، مثل صديقه شيلدون أندلسون، والذين يساعدون في تعزيز الإحساس الوطني بالحصار ودور الضحية. لكن الأهم من ذلك كله هو أن لديه شريحة كبيرة من المؤسسة الأمنية والاقتصادية الإسرائيلية إلى جانبه».
وفي السياق ذاته تقريباً، يقول «جوري رودوينيان» في مقال نشرته «نيويورك تايمز» تحت عنوان «المنطقة تغلي وإسرائيل تتبنى استراتيجية القلعة»، يقول: «يستمر نتنياهو وغيره من القادة في رؤية إيران الشيعية وبرنامجها النووي تهديداً رئيسياً لإسرائيل، وفي كون حزب الله الأكثر ترجيحاً لجرها إلى معركة مباشرة. وما يزال من الصعب بمكان تجاهل حقيقة القوة المتصاعدة للخلايا السنية المتطرفة في سوريا والعراق وما وراءهما والتي تهدد بجلب الجهاد إلى القدس. وفيما تتصاعد وتيرة الفوضى العارمة، يتبنى المسؤولون الإسرائيليون عقلية القلعة آملين أن يكون الخندق الذي حفروه -على شكل أسيجة حدود فائقة التقنية قد كثفه الانتشار العسكري والاستخبارات المتطورة- لشراء الوقت على الأقل».
لقد تغلغل المستوطنون وحلفاؤهم الأيديولوجيون، عميقاً، في المراتب العليا في كل من الجيش و«الشاباك» (جهاز الاستخبارات الإسرائيلية السري). وقد كشفت صحيفة «هآرتس» أخباراً مقلقة أفادت بأن ثلاثة من أصل أربعة من رؤساء «الشاباك» الآن يتبعون هذه الأيديولوجية المتطرفة. وفي استطلاع للرأي نشر في إسرائيل، في ظل الانتقادات الواسعة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، لانتقاده إسرائيل، يتضح أن «70 في المئة من الإسرائيليين لا يثقون بالولايات المتحدة فيما يخص سلامة إسرائيل»! ولخص الجنرال السابق في الاستخبارات العسكرية الاستراتيجية «ياكوف أميدرور»، الذي استقال مؤخراً من منصب مستشار الأمن القومي في إسرائيل، السياسة الإسرائيلية في ظل الأوضاع التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، بقوله: «انتظر وحافظ على القلعة»، مضيفاً: «ما يجب علينا فهمه هو حقيقة أن كل شيء سيتغير.. إلى ماذا؟ هذا ما لا أعرفه. لكن علينا أن نكون حذرين جداً بحيث لا نضطلع بدور في هذا الصراع. وما نشاهده راهناً هو انهيار نظام تاريخي، أي الفكرة التي تدعو إلى دولة عربية قومية واحدة. وهذا يعني أننا سنحاط في نهاية المطاف بمنطقة ستكون (أرضَ حرامٍ)».
أما «جدعون ليفي» فقد كشف جوهر التطورات المتفاقمة في الدولة الصهيونية حين كتب يقول: «تكمن وراء كل هذا الشر بواعث نفسية معوجة؛ وتكمن وراء كل القومية والعنصرية نفسٌ وطنية قاتمة متنازعة. بهذا فقط يمكن أن نفسر الموجة العكرة التي تهدد بإغراق المشروع الصهيوني في الأعماق. إن الشر باسم القومية يرفع رأسه في كل مكان.. ليس من سبيل إلى فهم كيف أصبح مجتمع لاجئين ومهاجرين في غضون وقت قصير جداً مجتمع شر كهذا ترأسه حكومة شر». ويضيف: «ليس الحديث فقط عن فقدان الشعور بالعدل بل عن سلوك انتحاري أيضاً. فقد كان أساس قوة إسرائيل دائماً التسويغ الأخلاقي لها، فبفضله قامت وبفضله ثبتت. وقد نبعت نظرة العالم إليها قبل كل شيء من شعور بالذنب نحو ضحايا المحرقة. وأضيف إلى ذلك قوتها العسكرية وازدهارها الاقتصادي والعلمي وتأثير يهود العالم. لكن المنارة في ظاهر الأمر قد تنهار من غير التسويغ الأخلاقي». ويختم ليفي قائلا: «أصبحت اللعبة منذ الآن هي الحفاظ على صبغتها اليهودية، ويجوز باسم هذا إحداث كل شيء تقريباً كما يجوز إحداث كل شيء باسم عبادة الأمن. لكن إذا كانت توجد تسويغات للعقيدة الأمنية فلا تسويغ لوسواس الحفاظ على الصبغة اليهودية بكل ثمن سوى القومية والعنصرية اللتين تلدان كل هذا الشر».
وهنا نكرر: مسيرة «المفاوضات» الفلسطينية الإسرائيلية خير شاهد. فإسرائيل والسلام نقيضان. وهي دولة تحيط نفسها بجدران أسمنتية على الأرض، وأخرى نفسية تعشش في العقلية اليهودية، قوامها الرفض والخوف من الآخر، والحل لديها يكمن في تطويل بنيان جدران القلعة. وحتى جدار الفصل العنصري، فضلا عن أنه نوع من «الآبارتايد»، فإنه يذكر بتقاليد الجيتو اليهودي في أوروبا. وعليه، يمكن القول بأن لجوء إسرائيل إلى بناء الجدار ينطلق من أسباب تمس البناء النفسي الداخلي للشخصية الإسرائيلية التي تربت في ظل نظرية الجيتو اليهودي. لذا، ليس غريباً علينا «خوف» إسرائيل من
السلام. وبالفعل، تمكنت الدولة الصهيونية من إفشال «أوسلو» حين تركت ملف القضايا الكبرى مثل القدس واللاجئين والمستوطنات إلى أجل غير مسمى، وأفشلت كل مساعي الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي التي قدمت حلولا قبلها العرب، وها هي «إسرائيل» اليوم تفشل حتى المساعي الأميركية رغم عدم حياديتها.
(الإتحاد الإماراتية)