كتب عبد الوهاب بدر خان: من بين الذين ولغوا في تحدي الدولة وإهانتها، وفي العمل الميليشيوي بمختلف أشكاله، وفي التسبب بإراقة الدماء، وفي الاغتيالات والخطف والتفجير واحتجاز الرهائن، وفي ترهيب المجتمع وترويعه... من يستطيع نبش ماضي الآخر في
لبنان؟
هناك من تلطخت أيديهم بالدم، وهناك طبعاً مَن ظلّت أيديهم نظيفة، وعندما قرروا العفو عما سلف لم يستبقوا ذلك بالتحاور والتصارح، ولم يسعوا معاً الى حقيقة وطنية واحدة، كما كان يُفترض. قرروا فقط التكاتم عن بعضهم بعضاً للتمتّع بمغانمهم، من دون أن تكون هناك أي فضيلة في النسيان. ولم ينسوا، بدليل أن السبق الرئاسي أعاد الى الأذهان أجواء كل الحروب، ما سبقها وما تبعها فضلاً عن حروب اللحظة الراهنة.
كان "الوفاق" المنبثق من "
اتفاق الطائف" مؤهلاً لأن يبثّ حيوية جديدة في التعايش الوطني، لكنه ولد بعاهة أصلية هي إشراف نظام الوصاية السوري عليه، فتكفّل بتعطيل مفاعيله، اذ لم تكن لهذا النظام مصلحة في عودة الروح والتفاعل بين الفئات والطوائف، ولم يكتف باستنخاب الرؤساء - غير متردد في اغتيال الرئيس المنتخب بعد "الطائف" - بل انتزع "صلاحيات"السلطات جميعاً واستأثر عسَسُه بممارستها.
معركة الرئاسة السابقة جاءت بميشال سليمان متأثرةً بما سبقها مباشرةً من أحداث (غزوة بيروت في 7 أيار، اتفاق الدوحة...) كما لو أنه رئيس انتقالي بين مرحلتين، أو قل بين رئاستين بمفهومين مختلفين، فهو أزال إرث اميل لحود العبثي ومهّد لرئيس لا ينحاز الى أحد في الصراع السوري، ولا لـ "حزب الله" الغارق في القتال هناك، لكنه ينحاز جداً وعلناً الى تعزيز الدولة وصون مصلحة اللبنانيين.
لكن القائلين بأن هذه أول رئاسة ستكون متحررة فعلاً من قيود "الوصاية" وجدوا أن الوصاية الإيرانية أكثر سوءاً من ربيبتها السورية. فكما كانت دمشق، كذلك طهران تشغّل الآن لبنان في مشروعها الاستراتيجي بمعزل عما يصلح له أو لا يصلح. ولوهلة ظنّ الأوصياء الايرانيون أن لديهم نقاط تفوّق (عسكرية) يجب أن تُدّعم بـ"رئيس قوي" من فريقهم السياسي في لبنان، وفي المقابل اعتبر الفريق الآخر - الذي ترعاه السعودية وليست وصيّة عليه - أن استعادة الدولة هيبتها تتطلّب "رئيساً قوياً". ولم يبرز سوى مرشحين "قويين": سمير جعجع وميشال عون.
لكلٍ من المرشّحَين ماضٍ وحاضر. وكلٌ منهما يملك ملفاً عن الآخر. عشرون عاماً بين السجن والعمل السياسي البحت في اطار طائفي متنوع هل كانت كافية لتغيير صورة جعجع؟ الأرجح نعم. وهل يكفي عام واحد من الانعطاف السياسي للقول بأن عون بات متحرراً من "حزب الله" ومن ايران والنظام السوري؟ الأرجح لا. كلٌ منهما يقطع الطريق على الآخر ليأتي المرشح الثالث، ولكن بعد حين.
(النهار اللبنانية)