هذه ليست بشارة لأحد بل هي أقرب إلى صوت النذير وهي بالأكيد ليست شماتة بل هي أقرب إلى النصيحة وإن اكتفت بمحاولة توصيف اتفق في جزء منه مع آخر تصريح تلفزي تقدم به المرحوم شكري بلعيد لقناة المتوسط قبل اغتياله، إذ أكد على مكونات الساحة السياسية والفكرية
التونسية مذكرا بالمكونات الأربعة الرئيسية لها؛ الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية، ولكنه لم يعش حتى يرى شكلا من أشكال التعايش السياسي المدني لهذه المكونات وهي تبني ديمقراطية تونسية مبتكرة في محيط عربي لم يتعلم من الديمقراطية غير اسمها الجميل.
ومازال عندي أمل في أن
اليسار التونسي خاصة والعربي عامة مختلف عن توصيف العفيف الأخضر الذي شبهه بالفجلة الحمراء من الخارج والبيضاء من الداخل.
تعدد اليسار في تونس(نبذة تاريخية)
لن يتسع المجال لتاريخ اليسار التونسي هنا ولكن الفكرة قديمة وأنصارها كثر يزيدون وينقصون حسب المراحل والفكرة لم تكن عندهم ذات مرجعية موحدة وإن ضمها اليسار الماركسي غالبا. فبواكير اليسار تعود إلى أول القرن وإلى أول النضال النقابي ضد الاستعمار مع محمد علي الحامي الذي بدأ في الحوض المنجمي تأسيس النقابات ضمن حركة تحرر وطني لكن مشروعه قصف من قبل المستعمر لكن الفكرة (المشروع الاجتماعي) بدأت في الترسخ غير أن ميلادها الثاني تم في حضن الحزب الشيوعي الفرنسي حيث أسس فرع له في تونس يقوده تونسيون وفرنسيون رؤوا أن معركة التحرر الوطني ليست مطلوبة بقدر ما ينبغي الانخراط في شيوعية أممية تدور في فلك الأممية السوفياتية (طبقا لموقف الحزب الشيوعي الفرنسي) ولكن التحاقهم بحركة التحرر الوطني كان أقرب إلى سد الذريعة منه إلى الانتماء المبدئي رغم مشاركة بعض شبابهم في النضال العمالي والنقابي. وقد ظلت وصمة الانتماء إلى حزب قيادته ومقره في دولة المستعمر تلازم الحزب الشيوعي مما وفر لبورقيبة ذريعة حله بعد الاستقلال (1963).
التأسيس الثالث كان في فرنسا تقريبا من قبل شباب يساري التحق بالدراسة هناك وانتمى إلى تيارات مختلفة (حركة آفاق) ثم عاد إلى الوطن ليمسك الحركة الطلابية ويقودها طيلة عشريتين تقريبا في أفق يسارية عالم ثالثية تضع معاداة الامبريالية على جدول أعمالها وكان للنقابة دور كبير في احتضان النضال اليساري منذ المنعرج الليبرالي سنة 1970 حتى تبلور موقع ثابت سمي باليسار النقابي لا يزال فاعلا حتى الآن.
نتج عن هذه البدايات يساران أحدهما إصلاحي يهادن السلطة (الحزب الشيوعي/ حركة التجديد/ المسار) ويعمل على تملك العمل الثقافي في سياق تحدث المجتمع فوقيا والآخر يظهر لها العداء ولا يتورع عن تملك أدواتها التنفيذية لتحقيق مآربه. وكلاهما يدافع عن طرح لائكي لا يصالح الثقافة المحلية ذات الأسس والمرجعيات الدينية معتبرا إياها سبب تخلف المجتمعات العربية و ردتها عن الديمقراطية. مما ولد قطيعة عميقة بين هذه التيارات النخوبية (بشقيها ) وبين عامة الناس.
تموقع ايديولوجي غير سياسي
حصلت اجتهادات كثيرة في صلب اليسار التونسي ظاهرها فكري وباطنها زعاماتي وكانت غالبا تنتهي بانقسامات داخلية فتعددت الرؤوس والقيادات لذلك ظلت الاجتهادات محصورة في الجامعة والنقابة وتسربت طبقا لتكتيك (الانتريزم أي التسرب داخل أجهزة النظام) إلى كل مفاصل الإدارة وخاصة الداخلية والتعليم والإعلام بعد سنة 1980 خاصة ورغم التكتيك العملي الذي ينم عن سلاسة التفكير إلا أن الاجتهادات الفكرية ظلت متكلسة حول المبادئ الكبرى للماركسية اللنينية وبعض تأويلاتها العربية البعثية العربية وخاصة في علاقتها بالمسألة الدينية مما أنتج عداء مستحكما بين تيارات اليسار وشخصياته وبين تيار الإسلام السياسي لم يهدأ حتى اللحظة ولا يبدو انه في وارد الصلح والتجاوز.
وفيما ظل اليسار بكل فصائله يردد أن التيار الديني كان صنيعة نظام بورقيبة لمحاربة اليسار تكشف أن معركة استئصال التيار خاصة بعد 1990 قادها ونفذها يساريون من داخل الأجهزة ومنعوا كل محاولات الصلح بين النظام والتيار.
وبعد الثورة كان لليسار من مواقعه المختلفة دور فعال في توجيه الثورة نحو التأسيس لكنه سرعان ما ارتد على مسار التأسيس بعد فشل انتخابي ذريع وهو المسار الذي صار مشروع
الإسلاميين يحمونه بكل السبل المتاحة. وقد قاد اليسار معركة إسقاط حكومة الإسلاميين مرتين متحالفا سرا وجهرا مع كثير من مكونات اليسار الثقافي وفلول النظام القديم بل مع رأس المال الفاسد وخاصة في صائفة 2013 التي انتهت بخروج الإسلاميين من المواقع التنفيذية.
اختيارات فكرية خاطئة و تيه سياسي
لا يمكن تقييم سياسة اليسار بعد انتخابات 23 اكتوبر خارج العداء التاريخي الجذري للإسلاميين المعتدلين منهم والمتطرفين. فالمحدد الأول الذي قاد كل تحركاتهم في النقابة وفي الإدارة وفي الإعلام هو تدمير الإسلاميين سياسيا وإخراجهم من المشهد تمهيدا لاستئصال ثان وكان التحالف مع النظام القديم وسيلة ممكنة اتسع لها الاجتهاد اليساري على قاعدة التحالف مع الأقل سوء لدحر الأسوأ.
وكثير من الأقلام اليسارية كتبت أن التجمعيين ليسوا أعداء بما أنهم لا يؤمنون بالدولة الدينية ولو كانوا فاسدين سياسيا واقتصاديا(بما يسقط سببا رئيسيا من أسباب الثورة ). وكان لليسار الثقافي دور كبير في بلورة هذا الموقف والدفع إليه ميدانيا عبر التحالف مع حزب نداء تونس الممثل الشرعي للنظام القديم. ولم تشفع اجتهادات الإسلاميين وإعلاناتهم المتلاحقة بأنهم ليسوا من دعاة الدولة الدينية بل لم يشفع لهم عداؤهم العلني للتيارات السلفية وتصنيفها قانونيا في الإرهاب في أن ينالوا رضى اليسار ويقبل بهم كشريك وطني يمكن منافسته أو التحاف معه ولا يجب استئصاله.
لقد خاض اليسار من داخل النقابات حملة تهشيم حكومة الإسلاميين ويكفي أن ننظر في قائمة الإضرابات التي قادها اليسار من داخل النقابة طيلة حكم الإسلاميين لنعرف أن النتيجة لم تقض على الإسلاميين ولكن المكسب السياسي انتهى لصالح رأس المال. لقد انحرف اليسار منذ فشل انتخابيا عن المعركة الاجتماعية فانتهى حليفا لعدوه الطبقي الذي طالما عاده واتهمه في وطنيته.
أما سلسلة النضالات الحقوقية من مختلف مواقع اليسار فقد كانت قائمة بالأساس ضد الإسلاميين لتوريطهم في كل ما هو معاد للحقوق والحريات. ولم يفوت فرصة في الشارع أو في الإعلام التي يتحكم فيها تحكما مطلقا للنيل منهم ومن حلفائهم إلى حد الوصول الى حياتهم الخاصة والحميمية عبر الإشاعة الكاذبة والإرجاف كتعييرهم باغتصابهم في السجون والشماتة في اغتصاب نسائهم بما جعل جزء كبيرا من عملهم خال من كل خلق سياسي بين منافسين. ويتذكر التونسيون معارك بلا شرف سياسي تحقر نضال الإسلاميين وتخونهم وتتفه كل ما يصدر منهم.
المراجعة الجذرية أو الموت
وفي أفق انتخابات تحث الخطى في نهاية 2014 يبدو اليسار تائها فعلا عن موقعه وتنظيراته اليسارية التي كانت تؤهله لخيار وحيد هو تبني قضايا الطبقة العاملة ورفدها سياسيا لتبلور مشروعها الاجتماعي. ويعيش اليسار المتحالف مع النظام القديم على أسس معاداة التيار الديني لحظة مفصلية في تاريخه ويقف أمام حقائق يجب أن يفتح عينيه ليراها بوضوح.
• أولها نهاية حيل استعمال أجهزة الدولة لتخريب وإقصاء خصم سياسي وطني.
• ثانيها أن تدمير خصمهم التاريخي الموجود بالقوة وبالفعل لم يعد ممكنا بل إن كل عداء تجاهه يصب في خانة تدمير الحياة السياسية الشاملة ويكبل مفاعيلها.
• ثالثها أن العمل مع هذا الخصم قد يكون منتجا ضمن أفق اعتراف متبادل وتفاوض سياسي فوق الطاولة وقد جرب مرة فصحَّ.
وذلك فإن تيار اليسار بكل مكوناته مدعو خاصة أمام خطاب إسلامي منفتح ظهر في حركة 18 أكتوبر وتبلور بعد الثورة في التوافقات الدستورية إلى مراجعات جذرية:
أولها: إعادة الانتماء إلى مشروعه الاجتماعي الأصلي والخروج من موقع الحليف المتزلف لرأس المال والفاسد منه بالخصوص.
وثانيها: أن يراجع موقفه من الثقافة الدينية الشعبية التي يمتهنها في ما يصدر عنه من إنتاج ثقافي ومواقف سياسية ذات منحى ثقافي منها بالخصوص بعض عناوين النضال الحقوقي كالدفاع عن الحرية الجنسية وزواج المثليين وحرية استهلاك المخدرات وتحديد موقف واضح من الالحاق الفكري. أي اقتراح حداثة أصيلة مختلفة خاصة عن النموذج اللائكي الفرنسي عبر قراءة نماذج لائكية أخرى.
وثالثها: الانطلاق من أن راديكالية المواقف لم تعد رائجة ضمن سياق تفكير ديمقراطية ليبرالية يشارك فيها جزئيا عبر التنظم والانتخاب ويرفض نتائجها إن لم تكن في صالحه. إن رومانسية الخطاب اليساري مؤثرة فعلا لكنها لم تنتج في أي بلد عربي ثورة شاملة مماثلة لثورة اكتوبر 1917 ولا حتى حركة ثورية قوية تفرض من خارج الليبرالية إمكان تغيير حقيقي. لقد اعتمدت الانقلاب العسكري أو تحالفت مع انقلابيين (وآخرهم حفتر الليبي) وبررت القتل الإجرامي حتى اللحظة في سياق استمرارا للعداء غير المبرر عمليا للإسلاميين.
هل يصحون أخيرا؟
رغم سوء المآل الذي انتهى إليه اليسار الأوربي سياسيا بانهيار التجربة السوفييتية ولواحقها إلا أنه لا يمكن إلا لجاحد أن ينكر أن اليسارية كانت ضمير القرن العشرين وأن تعديل نضالاتها على تحقيق مشروع اجتماعي متدرج قد خلق جنانا اجتماعية لا يسوؤها أن تنعت بالتحريفية. فلم يوقف الغول الرأسمالي في غرب أوربا إلا بنضالات يسارية نقابية بالخصوص اعتدلت عن مشروع الثورة الشاملة بالصيغة الماركسية اللينينة وأفلحت في بناء الدولة الاجتماعية وهو الأفق الوحيد لتطور الأطروحة اليسارية الذي نراه يتحقق في امريكا اللاتينية بهدوء وثقة. فهل يتجه اليسار التونسي إلى ذلك؟ هل يقدم اجتهاداته المعتدلة والتي تبدأ بإعادة ترتيب أوليات التحالف على أسس اجتماعية غير ثقافية فيصبح الفقير الإسلامي أقرب إليهم سياسيا ونضاليا من برجوازي حداثي يتلاحد ويقضي نهايات الأسبوع في مونت كارلو قبل أن يحج ويتوب فيبني مسجدا يصلي فيها الإسلاميون الفقراء؟
أرجو أن لا يمر كثير من الوقت ليرى اليسار التونسي أن اجتهادات الإسلاميين نحو الاعتدال السياسي والقبول بالتعايش يفسح لهم مجال وجود وتقديم نموذج نجاح يبنى عليه عربيا وعالميا ضمن منظومة معولمة لا يملك أي طرف أسباب دحرها وحده لكي يبدأ اليسار التونسي قيادة اليسار العربي نحو نقطة وسط يتعايش فيها الفرقاء الوطنيون ويتفاوضون حول مشروع تحرر اجتماعي شامل.
الانتخابات القادمة ستكون اختبار وجود، فإما بعث وتجديد أو اندثار ومراثي.