الشعب المصري ...الغائب الحاضر في المشهد الانقلابي

منذ الانقلاب علي الرئيس المنتخب وتعليق المسار الديمقراطي في الثالث من يوليو دائما ما يستدعي الشعب المصري لتمرير أو تبرير قرارات مصيرية أو حتى طموحات شخصية وقد أصاب مشهد  الاستدعاء المتكرر الكثيرون بالدهشة فلا يمكن أن يكون هذا الاستدعاء عائد إلي احترام الانقلاب لهذا الشعب وتوقير إرادته بعد إلغاء خمسة استحقاقات انتخابية نزيهة جسدت إرادة الشعب وأفصحت عن اختياراته.  

وقد كان الاستدعاء الأول للشعب لتبرير مشهد الانقلاب وإضفاء صوره من صور الشرعية المزيفة علي عمل غير دستوري فنزلت فئات بعينها في مشهد مصطنع شاركت الدولة العميقة وأجهزتها في الإعداد له وإخراجه بعناية وقد نقلت صحيفة المصريون طرفا من القصة عن ناقد سينمائي - رفض ذكر اسمه - قوله  "أبدى المخرج الشهير خالد يوسف تفهمه للنقد الذي وجه إلى الأفلام التي قام بتصويرها لمشاهد "ثورة 30 يونيو" ، معترفا بأنه استخدم تقنيات مشروعة في إبراز كثافة المشهد ربما بصورة مبالغ فيها نسبيا ، وأضاف يوسف أن هناك مبالغات في الأعداد التي ظهرت في المشاهد المصورة ، وأنه كانت هناك رغبة سياسية قوية في إظهار الحشود التي تحتج على حكم محمد مرسي بشكل مضخم لأن قلقنا ـ حسب قوله ـ كان كبيرا من فشل يوم الاحتجاج وأن نتائج فشله ستكون خطيرة على كل قوى الثورة وعلى الدولة وأجهزتها ، ورفض خالد يوسف ـ وفق المصدر نفسه ـ اعتبار تلك الأفلام مزورة ، مشيرا إلى أن ما استخدمه من أدوات فنية لإظهار الحشود بشكل مبالغ فيه هو عمل فني مشروع ، واعترف يوسف بأن الحديث عن خروج ثلاثين مليون مواطن في ذلك اليوم كان مبالغة صعب استيعابها وصعب إقناع الناس ، خاصة خارج مصر ، بصحتها "

وباسم هذه المبالغات "المشروعة" احتجز الرئيس وتم الانقلاب عليه والغي الدستور المستفتي عليه وحل مجلس الشورى المنتخب وأغلقت القنوات والصحف وصودرت الحريات ونزل الجيش بسلاحه لحماية الانقلاب وتروع المجتمع.  

كما استدعي الشعب عندما طلب قائد الانقلاب تفويضا لمواجهة العنف والإرهاب " المحتمل " واستخدمت أيضا التقنيات "المشروعة" في تصوير" الحشود" بصورة مبالغ فيها وخرج البابا ليشكر "الشعب" علي التفويض الذي تحول فجر اليوم التالي  27يوليو أي بعد ساعات إلي دماء وأشلاء بعد ان ارتكب الانقلاب مذبحة عند المنصة بمدينة نصر راح ضحيتها 127 شخصا، بالإضافة إلى 4500 جريحا. 
وفي ذكري 25 يناير 2014 أعلن الثوار نيتهم الاحتجاج في ذكري الثورة علي الحكم العسكري فاستنجد الانقلاب بالشعب المصري  فلم ينزل إلا عشرات "المواطنين الشرفاء" إلي ميدان التحرير الذي أغلق بالمتاريس والمدرعات من جانب الجيش و الشرطة أمام الثوار بحجة حماية "الشعب" وارتكبت مجزرة أخري راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمعتقلين. 


وفي ذكري السادس من أكتوبر خرج الثوار للاحتجاج أيضا وبذات الطريقة قتل منهم العشرات وجرح واعتقل المئات. 
وعندما أراد قائد الانقلاب الإعلان عن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية استدعي أيضا الشعب ليكون في خلفية الصورة عندما قال " إذا استدعاني الشعب فلن أدير ظهري له"

وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي وصفتها الصحافة العالمية بالمهزلة والمسرحية استدعي الشعب عدة مرات: 

الأولي: عندما طالبوه أن ينزل إلي صناديق الاقتراع بكثافة حتى يكسب الانقلاب شرعيه يحاجج بها العالم إلا أن معظم الشعب رفض النزول واعتصم بالمنازل ولعلنا شاهدنا انعدام الإقبال علي لجان الاقتراع  كما شاهدنا الملطمة التي نصبت في الفضائيات المؤيدة للانقلاب هلعا وفرقا من اللجان الفارغة إلا من العيون والحرس وكذلك نقلت الصحف والقنوات العالمية الصورة ووصفت المشهد بأنه محرج للغايه للجنرال.

الثانية: عندما حاولت الحكومة اتخاذ كافة السبل لدفع الشعب إلي التصويت فقررت منح العاملين بالدولة أجازه وقد برر رئيس الحكومة ذلك بأنه نزولا علي رغبة الشعب !!!؟؟؟؟

ولا ادري بأي طريقة استطاع رئيس الوزراء المؤقت قياس رغبة الشعب في اخذ هذا اليوم بالذات راحة ولماذا لا يتكرر هذا الموضوع كلما شعر المؤقت بهذه الرغبة لدي الشعب!!!! 

الثالث : عندما حاولت اللجنة العليا للانتخابات تحسين نسبة التصويت شبه المنعدمة فقررت مد التصويت ليوم ثالث ولما كان هذا المد لا مستند له من القانون برر رئيس اللجنة ذلك بأنه نزولا علي رغبة وفد شعبي زار اللجنة !!!؟؟؟ والعجيب ان  القاضي المبجل لم يكشف عن شخصياتهم أو انتماءاتهم أو مواقعهم الحزبية أو الدينية أو الشعبية .

الرابع : عندما استدعاه الإعلام واستجداه وخوفه بالغرامة والمستقبل والإرهاب وغير ذلك من أنواع الترهيب الرخيص فلم يدفعه هذا التخويف إلا عزوفا

 وفي تقديري أن هذا العزوف له ما يبرره فالحكاية من البداية أن الانقلاب العسكري باغت المصريين وحاول أن يسرق حلمهم ويقتل فيهم الأمل الذي شب علي الطوق وأصبحت له إرادة فاعله يستحيل معها أن يعودوا إلي الوراء فالمصريون يعلمون منذ البداية انهم قاموا بثورة عظيمة أن قوي الشر تتربص بها وتتآمر علي دماء شهدائها إلا انه لم يدر بخلدهم يوما أن يوجه سلاح جيشهم إلي صدورهم. 

 كانت تكلفة هذا الانقلاب باهظة ومؤثرة سلبا علي مسار الوطن ومصيره فقد قام الانقلاب بعدة محاولات لفرض سيطرته وتمكين خارطة طريقه عبر عدة محاور أهمها :

- محاولة محو ثورة يناير من التاريخ الإنساني والعقل الجمعي للشعب المصري وتدمير آثارها النبيلة 
- تطلع الشعب للحرية والعيش في ظل حكم مدني ومؤسسات تحكمها القوانين لا تتغول علي المواطن أو تستنكف عن ممارسة دورها الدستوري والقانوني وفي مقدمة هذه المؤسسات القضاء والشرطة والجيش .
- محاولة بناء وترميم حاجز الخوف وصناعة جمهورية الهلع والرعب والفزع وعالم ما وراء الشمس بعد أن تجرأ الشعب علي تلك الممارسات القذرة وثار عليها. 
- إعادة إنتاج دولة مبارك ونظامه ونصب شُرُك أكثر خداعا وإحياء الدور الذي تراجع لنادي المنتفعين بفعل الثورة. 
- وقد نتج عن هذه المحاولات البائسة ما يلي :  
- انهيار امني شامل وفشل واضح فقد أصبحت كل أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية في مواجهة سياسية صريحة مع شرائح واسعة من الشعب مع إهمال دورها الدستوري والقانوني في حفظ الأمن و مكافحة الجريمة وحماية الحدود. 
- وضع اقتصادي متردٍ للغاية بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء رغم تلطيفها لأغراض سياسية . 
- 3248 شهيد في جميع محافظات الجمهورية حتي 31/1 حسب إحصاء ويكي ثورة 
- 18,535 مصاب عبر 1372 واقعة اشتباك منفصلة في 26 محافظة مختلفة حتي 28 فبراير 2014
-  41,163 مقبوض عليه أو متهم في واقعة أو قضية في جميع محافظات الجمهورية من بين  المقبوض عليهم والملاحقين : (صحفيون, طلبة, قصر, نساء, أعضاء هيئة تدريس, أطباء, مهندسون, محامون, أئمة مساجد, نقابيون, نواب سابقون بمجلس الشعب أو الشورى ومواطنون عاديون)  ، 232 من الأطباء ، و223 من أساتذة الجامعات ، و388 مهندس ، و177 محام ، و940 مدرس ، و201 من أئمة الأوقاف ، و112 من نواب مجلس الشعب و35 من نواب مجلس الشورى يتوزعون جغرافيا كما يلي: 14198 في القاهرة والجيزة,2516 في الإسكندرية ,8607 في الوجه البحري,1987 في محافظات القناة,11215 في الوجه القبلي , 2640 في المحافظات الحدودية  .

هذه الأسباب في تقديري كافية جدا لعزوف الناس عن تلبية الدعوة لانتخابات محسومة سلفا قامت علي أشلاء ودماء وعذابات وآلام لم تستثن أحدا ولم تترك مدينه أو قرية او شارع إلا وخلفت فيه مرارة  والعجيب أن هذا العزوف والغياب الواضح ترجمته اللجنة العليا للانتخابات علي غير الحقيقة  إلي حضور طاغ فقد كان الشعب المصري ابرز الغائبين في المشهد الانتخابي وابرز الحاضرين في نتائجها