لنتّفق أوّلا على أنّ
الثورة تعني في مفهومها البسيط "الرحيل بالقديم و التأسيس للجديد" و هذا يحيل على أن الشعوب التي ثارت ضدّ أنظمة الطغيان و التسلّط و الفساد لم تكمل ثوراتها بعد، بل لعلّها في المرحلة الأصعب بعد هروب رؤوس الأنظمة المتعفّنة فما حدث كان في بداياته إحراجا للأنظمة المتجبّرة ثمّ تطوّر إلى مطالبة برحيل رؤوس الأنظمة و قد نال المنتفضون ذلك لكنّ الأنظمة مازالت تراوح أمكنتها بل لعلّها قد استغلّت هامش الحريات و الفوضى المفتعلة لتكون أقوى أكثر من أيّ وقت مضى.
لم يكن السياسيّون في الصفوف الأولى للتحرّكات التي شهدتها المنطقة العربيّة و لم يكونوا مأجّجين لغضب الجماهير المنتفضة بل أنّ منهم من حاول إلى آخر رمق أن ينقض رأس النظام المطلوب شعبيّا و لا أتحدّث هنا عن رموز الديكور الديمقراطي لأنّهم جزء من النظام بل عن بعض الرموز التي إكتفت بالحدّ الأدنى من النّضال ضدّ الدكتاتوريّة و كان إلتحاقها المتأخّر بالشوارع و الساحة دليلا قاطعا على كونها لم تكن يوما "ثوريّة" بقدر ما كانت "إصلاحيّة".
بعد إسقاط رؤوس الأنظمة تمّ إعتقال الثورة و مطالب الجماهير التي لم يكن لها قياداتها و تنظيماتها في مكاتب السياسيين المغلقة و بدأ الحديث عن نظريّة "الإنتقال الديمقراطي" الذي إرتضوا له أن يكون شعارا لمرحلة التأسيس بشروط القديم لاستمرار سيطرة أعمدة النظم السابقة على عصب الدولة، و من هنا بدأ الغطاء يكشف يوما بعد يوم عن مستوى النخب السياسيّة التي لم تكن في حجم اللّحظة و ما الصراع الإسلامي العلماني الذي نراه في الدول التي شهدت تحركات أطاحت برؤوس أنظمة الحكم إلاّ دليل على غياب تصوّرات لفلسفة الدولة و السلطة و على قطيعة بين مطالب و شعارات الحراك الثوري و مطالب السياسيين المعلنة و الخفيّة. الصراع بين السياسيين على "الإنتصاب" حول المشهد السياسي إلى ما يشبه ساحة وغى يستباح فيها كلّ شيء حتّى الدماء في بعض الأحيان فصار صراعا سياسيّا أقرب إلى البلطجة من أيّ شيء آخر.
يعلم القاصي و الدّاني أن أعمدة النظم التي قامت ضدّها الثورات كانت لها مصالحها التي أصبحت مهدّدة. لصوص العهود البائدة و إن كانوا قد تواروا عن الأنظار قليلا في البداية فقد عاد جزء منهم لوحده و أعيد جزء آخر بفعل فاعل فخيار التأسيس من داخل المنظومة القديمة أعطى لهؤلاء فرصة لغبتزاز الدولة الهشّة و الضعيفة و أعطاهم حقّ العودة للفضاء العام بتأخّر المحاسبة. لا ينبغي كذلك أن ننسى أن فئة كبيرة من الذين إلتحقوا بمؤسّسات النّظام القديم ليسوا بأحسن من سابقيهم ثقافة و ممارسة و هذا ما زاد في تعميق جراح المنتفضين لأنّ رموز الخراب مازالوا يراوحون أماكنهم بل صار لهم اليوم أنصار.
الأنظمة التي قامت ضدّها الضعوب الثائرة كانت بوليسيّة بدرجة أولى لبسط السيطرة و الحفاظ على النفوذ و هذا ما يحيل على أهميّة محاسبة الجهازين الأمني و العسكري و إصلاحهما جذريّا ففي مصر مثلا عندما لم تطل الثورة المؤسسة العسكريّة التي تحركها مصالح و برامج جنرالات كامب دايفد
قامت هذه الأخيرة بانقلاب أمّا في
تونس ففي ظلّ تواضع المؤسسة العسكريّة كانت المؤسسة الأمنيّة العصا الغليظة لنظام الطاغية بن علي و قد استغلّت هذه المؤسسة حالات الفوضى المتكرّرة للتشريع لعودة القبضة البوليسيّة مجدّدا فالعقيدة الأمنيّة من جهة هي نفسها عقيدة القمع
و الترهيب ثمّ إنّ الملفّات السوداء لهذا الجهاز لم تكشف بل تمّ إتلاف جزء كبير منها و حتّى فكرة الأمن الجمهوري تحتاج وقتا طويلا لتحقيقها ناهيك أنّ هناك علاقة وطيدة بين بعض القيادات الأمنيّة مع عصابة السراق من رموز الزمن الغابر و الملتحقين بهم حديثا و مع بلطجيّة السياسة لتشابك في المصالح.