ثانيا: الأجندات الإقليمية والغربية
تناولنا في المقال السابق الوضع الداخلي كأحد أسباب تداعيات الموقف واستعرضنا تركيبة المجتمع
العراقي وما تعرض له منذ حكم صدام وحتى اليوم وذكرنا القوي الرئيسية في العراق وما تتمتع به من نفوذ ووزن نسبي واهم الجماعات المسلحة المنتمية لكل فصيل ولا يمكن أن نتحدث عن الوضع الداخلي دون أن نبين انه انعكاس مباشر لأجندات إقليمية وتجاذبات دولية تستهدف العراق وحدته وموارده..فالعراق ملتقي أربع مشروعات متنافسة بحكم الجوار والصراع علي النفوذ:
1- المشروع الصفوي الإيراني
ترجع الجذور التاريخية لهذه التسمية إلي الدولة التي أسّسها (الشاه إسماعيل الصفويّ ) في عام 1501م الذي اتّخذ من مدينة (تبريز) عاصمةً له، وأعلن أنّ دولتَه (شيعية إماميه أثنا عشرية)، وقام بفرض عقيدته بالقوّة، واجبر غالبية إيران التي تنتمي إلى أهل السنة علي التشيع قائلا لمن حذره من ذلك: (إنني لا أخاف من أحد، فإن تنطق الرعية بحرفٍ واحد، فسوف أمتشق الحسام، ولن أتركَ أحداً على قيد الحياة) وفي سبيل توطيد ملكه قام بقتل مليون مسلم وأمر أتباعه بالسجود له كما أمر الخطباء بسب أبي بكرٍ وعمر وعثمان علي المنبر، وقد اشتهر بدمويّته وساديّته الشديدة وعدائه لأهل السنة.
امتدّت الدولة
الصفوية فيما بعد في كل أنحاء إيران وما جاورها، فقضى (الشاه إسماعيل) على الدولة التركمانية السنية في إيران، ثم سيطر على (فارس وكرمان وعربستان) وغيرها.. وكان في كل موقعةٍ يذبح عشرات الآلاف من أهل السنة.. إلى أن هاجم بغداد واستولى عليها، ومارس أفظع الأعمال فيها ضدهم، ومما فعله، أنه قام بتهديم مدينة بغداد، وقَتل الآلاف من أهل السنّة، واستخدم التعذيب الشديد بحقّهم قبل قتلهم، ثم توجّه إلى مقابرهم، فنبش قبور موتاهم، وأحرق عظامهم!.. كما توجّه إلى قبر (أبي حنيفة) و(عبد القادر الجيلاني) -رحمهما الله- ونكّل بهما ونبشهما!.. وكذلك قام بقتل كل مَن ينتسب لذرية القائد المسلم (خالد بن الوليد) رضي الله عنه في بغداد، لمجرّد أنهم من نَسَبِه، وقَتَلهم قتلةً شنيعة.
وقد تحالف الصفويين مع البرتغاليين والمجر والنمسا ضد الدولة العثمانية السنية بل إن (عباس الكبير) تواطأ مع بريطانية ضد العثمانيين، وحاصر المدن السنية، ونكّل بها وبأهلها، وقام بترحيل (1500) عائلةٍ سنيةٍ كردية، وقتل سبعين ألفاً من الأكراد السنة، ومنع الحج إلى مكة المكرّمة، وأجبر الناس على أن يحجّوا إلى قبر (الإمام موسى بن الرضا) في مدينة مشهد بينما قام بتكريم النصارى والأوروبيين، وفتح لهم أبواب إيران على مصراعيها، وبني لهم الكنائس، وأعفاهم من الضرائب، وشاركهم أعيادهم، واحتسى الخمر معهم!..
ولا شك أن الحساسيات المذهبية والقراءات التاريخية تجعل دول الخليج وعلي رأسها المملكة العربية السعودية في موقف المتوجس من المشروع الإيراني التوسعي لا سيما مع تزايد الحديث عن (الهلال الشيعي )و(تصدير الثورة ) وقد جاء المصطلح الأخير علي لسان زعيم الثورة الإيرانية الأول الإمام الخميني في الاحتفال بمرور عام علي انتصارها عندما قال: (إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالَم) وقد نشرت مجلة البيان الإماراتية في عددها رقم (78) تحت عنوان: (الخطة السرّية للآيات في ضوء الواقع الجديد)، نصَّ رسالةٍ موجَّهةٍ من (مجلس الشورى للثورة الثقافية الإيرانية) إلى المحافظين في الولايات الإيرانية، وذلك في عهد الرئيس الإيرانيّ (خاتمي)، وقد كانت المجلة قد حصلت على تلك الرسالة الخطيرة من (رابطة أهل السنة في إيران – مكتب لندن ومما جاء في تلك الرسالة:
(لقد قامت، بفضل الله، دولة الإثنى عشرية في إيران بعد عقودٍ عديدة، وبتضحية أمة الإمام الباسلة، ولذلك، فنحن -بناءً على إرشادات الزعماء الشيعة المبجَّلين- نحمل واجباً خطيراً وثقيلاً، هو (تصدير الثورة)، وعلينا أن نعترفَ بأنّ حكومتنا -فضلاً عن مهمّتها في حفظ استقلال البلاد وحقوق الشعب- فهي حكومة مذهبية، ويجب أن نجعلَ تصدير الثورة على رأس الأولويات، لكن نظراً للوضع العالميّ الحاليّ، وبسبب القوانين الدولية -كما اصطُلح على تسميتها- لا يمكن تصدير الثورة، بل ربما اقترن ذلك بأخطارٍ جسيمةٍ مدمِّرة.. ولهذا، فإننا وضعنا (خطةً خمسينيةً) تشمل خمس مراحل، مدة كل مرحلة عشر سنوات، لنقوم بتصدير الثورة (الإسلامية) إلى جميع الدول المجاورة، لأنّ الخطر الذي يواجهنا من الحكّام ذوي الأصول السنيّة، أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الشرق والغرب، لأنّ أهل السنّة هم الأعداء الأصليون لولاية الفقيه والأئمّة المعصومين، وإنّ سيطرتنا على هذه الدول تعني السيطرة على نصف العالم، ولتنفيذ هذه الخطة الخمسينية، يجب علينا أولاً، أن نُحَسِّن علاقاتنا مع دول الجوار، ويجب أن يكونَ هناك احترام متبادل وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم.. وإنّ الهدف هو فقط (تصدير الثورة)، وعندئذ نستطيع أن نُظهر قيامنا في جميع الدول، وسنتقدّم إلى عالم الكفر بقوةٍ أكبر، ونزيّن العالم بنور التشيّع، حتى ظهور المهديّ المنتَظَر)
وفي الواقع اكتسبت إيران أوراقا ممتازة وكافيه لتمرير مشروعها دون جلبه أو صياح فقد تحالفت مع أمريكا (الشيطان الأكبر) من وجهة نظرها لإزاحة النظام السني في العراق بل دخل حلفاءها العراقيين علي ظهور الدبابات الأمريكية إلي بغداد وتعاظمت مكاسبها الجيوسياسية باستيلاء المالكي علي السلطة وإزاحة السنة حتى من شاركوا حلفائهم العراقيين مقاعد المركبات الأمريكية الوثيرة أو الجوار في المنطقة الخضراء , أضف إلي ذلك وجود إيران القوي في لبنان عبر حليفها الاستراتيجي والقوي حزب الله وكذلك الأمر في سوريا بوقوفها بقوة بجوار النظام العلوي وبمباركة روسيا والصين إضافة إلي وجودها المذهبي في معظم دول الخليج وخاصة البحرين وكذلك اليمن في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة وبذلك تحاصر ايران الخليج من ثلاث جهات.
أما حكام الخليج فقد اتسمت سياستهم بالارتباك وعدم وضوح الرؤية تجاه هذا المشروع الذي تتصاعد تجلياته يوما بعد يوم وأخرها بالطبع التقارب الإيراني مع أمريكا والقوي الغربية علي حساب الحلفاء التاريخيين في الخليج ومن دون تنسيق معهم فقد كان الخليجيون في السابق يخوفون الجمهورية الإسلامية بالعم سام الذي كان علي ما يبدو منشغلا في حساباته الخاصة .
2- المشروع السني
في مقابلة المشروع الشيعي وتمثل دول الخليج وخصوصا المملكة العربية السعودية رأس حربته باعتبار جاوراها المباشر واحتكاكها الدائم بالمشروعات المناهضة الرابضة علي حدودها.
والذي يثير الدهشة انه لا توجد معالم لهذا المشروع علي الأرض أو رد فعل عملي له اللهم إلا تلك التجليات الفردية التي تقوم بها جماعات سنية مسلحة تتلقي دعما من بعض دول الخليج علي استحياء علي الجانبين السوري والعراقي والعجيب أن دولا تواجه هذا الحجم من التحدي والتهديد تنصرف إلي محاربة قوي سنية وتدعم انقلابات وتثير قلاقل في دول الربيع العربي غير عابئة بتآكل بعدها الإقليمي والشعبي الأمر الذي يجعلها اقل ثقلا وتأثيرا وأكثر بعدا عن تطلعات شعوبها وعرضه للتغيير في عالم يغلي كما تغلي البراكين ولا يقف عند حسابات الخواطر وتقدير الأشخاص أو العواقل المالكة وغير المالكة .
وقد تنبؤك كثرة المشاهدات في إطار الفعل ورد الفعل عن أن الدول العربية السنية وخاصة من يتبني منها خطابا إسلاميا كبلد الحرمين الشريفين تخلت بالكلية عن الدور الشرعي للحاكم في الإسلام الذي هو(خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به) بخطاب أكثر علمانية وسلوك أكثر حذرا وحسابات برجماتية دقيقة تخضع لابتذاذ القوي الغربية ويراد لها إلا تتخطي حدود السياسة الدولية التي ترسمها أمريكا والقوي الغربية وإسرائيل .
ففي الوقت الذي يتوغل فيه المشروع الإيراني لتطويق الخليج نجد دوله كالمملكة السعودية تدعو إلى تنسيق دولي لمواجهة ظاهرة الإرهاب، حيث تعتبر المملكة أن الإرهاب يعد من أخطر التحديات التي تواجه المجتمع الدولي وتحس المالكي علي عدم إقصاء العرب السنة والإسراع في تشكيل حكومة كفاءات وطنية وهي نصيحة يمكن أن تقبل من دوله ليست طرفا في هذا النزاع الطائفي الذي يستهدف وجودها ويطمع في مواردها..
3- المشروع التركي
تعتبر تركيا بلدا إقليميا مؤثرا في الوضع العراقي لغالبيتها السنة من جهة ومنافستها إيران والسعودية علي النفوذ في المنطقة من جهة أخري غير انه يوجد بعد أهم لدي السياسة الخارجية التركية وهو البعد المتعلق بالمسألة الكردية وهو تحدي كبير يواجه الدولة التركية منذ تأسيسها وصداع مستمر في رأس قادتها وسياسيوها فالأقلية الكردية في جنوب تركيا لها مطالب تاريخية في الانفصال وهي مشكله كما أسلفنا موزعة علي خمسة دول تحمل تركيا جزءها الأكبر وتأتي جارتها العراق في المرتبة الثانية وقد استفاد أكراد العراق بعد سقوط صدام من الوضع الجديد في تحقيق بعض أحلامهم بحكم ذاتي حسن من نفوذهم السياسي مع امتلاك قوه مسلحة تتعاظم إمكاناتها يوم بعد آخر الأمر الذي يلقي بظلاله علي أكراد الداخل ويقوي موقفهم خاصا أولئك الذين يحملون السلاح في وجه الدولة مما يثير القلق ويجعل الدولة التركية ترقب ومراقبه عن كثب مجريات الأمور في العراق ولفت انتباه الفاعلين الدوليين لضمان وحدة وسلامة أراضيها ومراعاة مصالحها حيال أي قرارات تستهدف الجانب العراقي.
4- المشروع الصهيوأمريكي (المدعوم غربيا)
وهو مشروع قديم يستهدف بسط النفوذ وتأمين مصالح أمريكا في المنطقة ولعل زرع كيان وظيفي (إسرائيل) في المنطقة كان في حد ذاته احد تجليات هذا المشروع وقد بدأ التدخل الأمريكي في الشأن العراقي منذ أن أعطت الضوء الأخضر لصدام باحتلال الكويت لتكوين ذريعة وغطاء للتدخل العسكري الذي كان له هدفين جوهريين هما تفكيك الجيش العراقي - الذي كان يسعي لامتلاك أسلحة نوعية - لضمان التفوق العسكري الإسرائيلي في ظل تكبيل الجيش المصري بمعاهدة كامب ديفيد وتأمين إمدادات النفط والغاز العراقي للغرب الذي يقدر بـ385 مليار برميل الأولي عالميا والغاز 6 ترليون متر مكعب السادس عالمياً بالإضافة للبعد الديني الذي لا يمكن إغفاله عند الحديث عن الرئيس بوش الذي نفذ خطته الرامية إلي تفكيك الجيش وتأمين واردات النفط بدقه وقد حققت نجاح ملحوظ بل أفضي التعاون حول هذه الخطة إلي التقارب مع إيران لوجود نقاط التقاء ولم تنقطع العلاقات غير المعلنة منذ العام 2003 حتى الآن ولعل التفاهمات الأمريكية الإيرانية جاءت على خلفية هذا التعاون وقد تفاجئنا الأيام المقبلة بالإعلان عن خطة أمريكية –إيرانية مشتركة للتدخل في العراق وسوريا يكون الهدف المعلن فيها مواجهة مد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ومكافحة (إرهابها).