وضعت السنة الدراسية أوزارها وأفلحت الإدارة بوزيرين في سنة واحدة في إتمام السنة الدراسية بنجاح إداري نسبي فقد بذلت
النقابات المسيسة قصارى نضالاتها لإفشال السنة الدراسية. فكانت نهاية السنة حزينة على أطفال صغار حرموا من إعلان نجاحهم.
لكن السؤال الذي لم يطرحه المعنيون بمستقبل البلد. هل نجحنا في تعليم حقيقي شعبي وديمقراطي كما وددنا دائما ورددنا دوما وكما طرحت علينا الثورة والمرحلة؟
مدرسة البناء الوطني
يمكننا أن نمجد تجربة التعليم في تونس ونفخر بها خاصة إذا نسبنا النجاح بلا عقدة نقص وبلا تفوق أخرق فقد أفلحت
المدرسة التونسية في تخريج ما كفى الإدارة التونسية من الكفاءات لتكون وطنية وتتحرر من الكادر الأجنبي سريعا. لكن بعد تونسة الإدارة فقدت المدرسة مشروعها وظلت ماكينة تخريج متعلمين بلا مستقبل منتج رغم إعلاء الشعار الأزلي بتلاؤم التكوين مع التشغيل لذلك كانت الدولة تضطر دوما لحشر الإدارة بموظفين زائدين عن النصاب كحل وحيد متاح حتى صار الحديث عن مشروع بناء مشروع ثقافي وطني عبر المدرسة ضربا من الهرطقة.
شدة المنافسة على التوظيف والتشغيل وضيق الفرص أفقدت التعليم التونسي عمقه الديمقراطي فانطلقت عملية فرز اجتماعي يفوز فيها حتى الآن الأقدر ماديا وقد وضعت الدولة نفسها قواعد الفرز الاجتماعي بحجة العثور على العصفور النادر وإطلاقه من قفص الكتلة الشعبية فوضعت نظام التعليم النموذجي في مقابل التعليم الشعبي ورتبت المناظرات على أساس الكفاءة لينجح الأقدر.
كانت الحجة المعلنة هي تمكين الكفاءة من البروز ولكن ذلك كان يخفي أن الحق في المدرسة الجيدة يتحول للأغنى وليس للأفقر فالمعاهد النموذجية تضم خيرة المدرسين الذين يميلون إليها ضمن خطة السيطرة على الدروس الخصوصية. ذلك أن التنافس لم يعد بين المتعلمين وإنما بين الأسر (الميزانيات) وهو ما فتح سوق الدروس الخصوصية على مصراعيها للقادرين عليها والقدرة المادية تخلق التلميذ الناجح وهكذا دخلت المدرسة التونسية في دوامة لن تخرج منها إلا بإصلاح جذري للمدرسة على أسس جديدة تولي أهمية للمعرفة التقنية و العدالة الاجتماعية.
لماذا يحصل هذا الفرز الاجتماعي؟
لقد أنتج مشروع التحديث الاقتصادي حراكا اجتماعيا أعيد فيه ترتيب المجتمع طبقيا أي أن هناك فئات اجتماعية ارتقت بالمدرسة وبغيرها من وسائل الحراك الاجتماعي وتملكت مواقع ذات مردود و خلاقة للأحلام الاجتماعية في السيطرة والتحكم أي فئات اجتماعية متفاوتة القدرة على الوصول إلى المنافع المتاحة .
بعضها يعاني الآن للحصول على الحد الأدنى الاجتماعي بينما يطمح بعضها إلى المزيد من الرقي المادي بوسائله التي منها التعليم العام. لقد كان من تراتيب الحراك الاجتماعي والتنافس على المنفعة أن وضعت قواعد الالتحاق بالجامعة على أساس الكفاءة الدراسية أي أن معدل النجاح المدرسي يتحول إلى وسيلة الارتقاء الاجتماعي.
ويتجلى هذا في اختصاصات علمية مثل الطب والهندسة المفضية بالضرورة إلى مهن ذات مردود مادي جيد تحسن المكانة الاجتماعية وتضافر ذلك مع توزيع خريطة التعليم على أساس الاقتدار الجهوي الناتج بدوره على تمكن من جهاز التحكم التنفيذي فالخريطة التعليمية وزعت كليات الطب والهندسة في المناطق الساحلية (سوسة وصفاقس وتونس) وهي المناطق التي أفرزت قبل ذلك طبقة أو فئات الحاكمين (السلطة التنفيذية والتشريعية) وهكذا عمل الفرز السياسي على توسيع الفجوة الجهوية التي أنتجت فرزا في توزيع المنفعة التعليمية.
فصار التفاوت ينتج نفسه كآلية حراك اجتماعي غير عادل بل مكرس للتفاوت. ويجري الآن رفض كل طلب اجتماعي وسياسي وأخلاقي ينادي بكف الفرز وبدء الميز الإيجابي (وهو مطلب من أهم مطالب الثورة التونسية) لقد وضعت الثورة مطلب إصلاح التعليم على الطاولة. بصفته وسيلة مشروعة لخلق الميز الإيجابي وأول حركة سياسية تجلت بعد الثورة في هذا الإتجاه أحدثت ردة فعل غاية في الخطورة وغاية في الدلالة أيضا وأعني هنا محاولة إنشاء كليات طب في المناطق الداخلية المفقرة بما يسمح لأبنائها بالوصول إلى التعليم ذي المردود المادي الخلاق للمكانات الاجتماعية.
لقد كان أول المعترضين هم المستفيدون من النظام الحالي القائم على الحيف حيث لا ضير لديهم في أن يظل البلد مقسما بين منطقة منتجة للأطباء وأخرى منتجة للمرضى.
وقس على ذلك بقية الاختصاصات أي أن بيت الفقير إذا بناه لا بد أن يخططه له مهندس من طبقة أعلى منه استطاع تحت غطاء المساواة الشكلية أمام المدرسة أن يصل إلى التخصص المفضي للمكانة. لا شك أن هناك حالات استثنائية فبعض أبناء الفقراء نبغوا من داخل الفقر ووصلوا إلى مراتب تعليمية عالية بل إلى مدارس غربية سامية كالبولتكنيك الفرنسية ولكن ذلك ليس إلا الاستثناء الذي يؤبد القاعدة فالنجاح الدراسي هو ثمرة نجاح وتموقع اجتماعي. وهو ما يجري حاليا في المدرسة التونسية المفتوحة على توزيع اجتماعي متراكب مع توزيع جهوي نتج بدوره عن توزيع سياسي غير متكافئ.
هل يمكن تغيير مسار المدرسة الآن وهنا؟
أفلحت عملية التأسيس الدستوري في فرض الميز الإيجابي وترجمته إعادة بناء المدرسة على أساس توظيفها في الحراك الاجتماعي بما يسمح للمفقرين عبور عتبة فقرهم بوسيلة الدولة لا قط بتركهم لمصيرهم الفقير يكافحونه بأيديهم.
إن المطلوب الآن إصلاح المدرسة ضمن مشروع دولة اجتماعية حديثة تقوم على مساواة فعالة غير
شكلية أي مساواة سياسية واجتماعية بنص تعديلي يرد على الميز الحالي بتخصيص كوتا لطلبة الطب والهندسة من المناطق الداخلية بقطع النظر عن معدلات النجاح في الباكالوريا (الثانوية العامة) في انتظار تأسيس بنية تعليمية طبيبة مخصصة للمناطق المحرومة.
وكسر نظام الفرز القائم على معادلة مغلوطة اسمها
النمذجة التعليمية والتي كرست فرزا اجتماعيا قاسيا. ثم الضرب بيد حازمة على تلاعب رجال التعليم بالعملية التعليمية بكسر أنظمة الدروس الخصوصية الموازية للمدرسة إذ يكفي أن تسقط فكرة المعهد النموذجي لتسقط فكرة الاستاذ النموذجي القادر على توصيل التلميذ إلى موقع ظاهره تعليمي ولكن أفقه اجتماعي. لقد تبين أن المساواة الشكلية أمام المدرسة وهم عدالة لكن باطنه تفقير.