فاجأت دولة العراق والشام الإسلامية، في مطلع هذا الشهر، عموم المسلمين بإعلان
الخلافة الإسلامية واختيار قائدها، أبو بكر البغدادي، خليفة للمسلمين، والتخلي عن اسمها السابق لصالح اسماً أكثر اختصاراً ودلالة: الدولة الإسلامية. بعد أيام على الإعلان، خاطب الخليفة الجديد مسلمي العالم، داعياً إياهم، سيما أصحاب التخصصات، بالهجرة إلى دولة الخلافة. أثار الإعلان ما يشبه العاصفة السياسية والفكرية، في العالم الإسلامي على وجه الخصوص. في العراق، حيث نظام المالكي الطائفي الأكثر عرضة للتهديد من الدولة الجديدة/ القديمة، قال رئيس الحكومة المنتهية ولايته أن الإعلان يشكل خطراً على أمن العالم بأسره.
أما في العواصم الغربية وروسيا، وبعد أيام من عودة دوائر الدولة والإعلام السريعة لتاريخ مؤسسة الخلافة ومغزى استعادتها في سياق النظام العالمي، لم يكن ثمة تحفظ في التوكيد على الخطر الذي كانت تمثله الدولة ولم تزل. وبالرغم من أن بعض الجماعات الإسلامية المسلحة رحبت بالإعلان، نظر أغلب علماء المسلمين، بمن في ذلك أصحاب المواقف السياسية المعارضة، وعموم المسلمين المهتمين بالشأن العام، إلى الأمر بقدر من الاستهجان، أحياناً، والتوجس، في أحيان أخرى.
خلال أيام قليلة من حزيران/يونيو الماضي، سيطرت الدولة الإسلامية بقوة السلاح على مساحات واسعة من العراق، بما في ذلك معظم محافظات نينوى، صلاح الدين، والأنبار، بعد أن كانت قد سيطرت على معظم محافظة دير الزور السورية. وفي استعراض لا يخلو من دلالات سياسية، أزال مقاتلو الدولة المحطات الحدودية الرسمية بين سوريا والعراق، المحطات التي جسدت خط الحدود الفاصل بين الدولتين منذ زهاء المئة عام. باعتبار مساحة الأرض، عدد المسلحين، تعداد السكان الذين يقطنون هذه المنطقة ومدنها الرئيسية، ومصدر الثروة المتمثل في آبار نفطية وثروات أخرى، تتمتع الدولة الجديدة بمقومات لا تتمتع بها كثير من دول العالم. ولكن دولة الخلافة الجديدة أسست لعداء مستحكم بينها وجوارها كله، وعليها أن تعيش حرباً مستمرة ضد قوات الحكومة العراقية ومن يقفون معها، ضد النظام السوري وأغلب القوى التي تقاتله، وضد إقليم كردستان (العراقي، حتى الآن)، وتركيا. بالرغم من حجم المظلمة التي تعرض لها سنة العراق، التي تضعهم بين خيارين لم يكن لهم من إرادة في اختيارهما: دولة المالكي ودولة البغدادي، والتصميم الذي يظهره مقاتلو الدولة في ساحات القتال، فليس من المتوقع أن تنجح الدولة الإسلامية في الحفاظ على مكتسباتها لزمن طويل. ولكن هذه ليست المسألة الآن. المسألة هي إعلان الخلافة.
حررت الزميلة مضاوي الرشيد ونشرت مع زميلين آخرين في العام الماضي كتاباً بعنوان «نزع الغموض عن الخلافة؛ Demystifying the Caliphate»، وكان لي شرف كتابة فصله الأول، المتعلق بواقعة إلغاء الخلافة في 3 آذار/مارس 1924، بقرار من المجلس الوطني الكبير، برلمان الجمهورية التركية الوليدة. يوفر الكتاب، من وجهة نظر دارسي التاريخ والسياسة والأنثروبولجي، جوانب متعددة لجدل المسلمين واختلافاتهم حول مسألة الخلافة خلال القرن الماضي.
وقد تعلق الفصل الذي ساهمت به بلحظة إلغاء الخلافة، التي ولدت كل ما جاء بعدها من جدل وخلافات واهتمام. ولأن ثمة رواية سائدة لتلك اللحظة، ارتكزت إلى كتابات علماء عثمانيين كبار، مثل آخر شيخ للإسلام، الشيخ مصطفى صبري، إضافة لكتاب وعلماء آخرين، لم يكن من السهل مقاربة المسألة بقدر كاف من الموضوعية. ولكن الحقيقة أن السردية السائدة، التي قالت أن مصطفى كمال كان لديه مخطط مسبق للقضاء على الخلافة وسلطة الإسلام السياسية، أو أن إلغاء الخلافة كان مؤامرة بريطانية، ماسونية، إلخ، أو أن القرار اتخذ من قبل رجالات الدولة الجمهورية الجديدة لاسترضاء القوى الغربية في مباحثات الصلح بلوزان، لم تستند إلى أدلة صلبة. ما ساعد هذه السردية على الانتشار والسيطرة على الثقافة الإسلامية لعقود طوال كان بلاشك الشعور الإسلامي العام بهول المفاجأة، بعظم القرار التركي بإلغاء المؤسسة التي عاشت قروناً، بالرغم من ضعفها وتهميشها، لتجسد وحدة الأمة ووجودها السياسي في الساحة العالمية. ولم يكن مدهشاً أن يكتب شوقي في سقوط الخلافة واحدة من قصائده الخالدة، التي صورت الحدث وكأنه لحظة لسقوط سقف العالم.
«ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواحي»، قال شاعر العروبة والإسلام.
ثمة عوامل موضوعية بحتة دفعت الأوضاع إلى 3 آذار/مارس 1924، بدون أن تكون هناك مسودة أو مخطط لدى أي ممن لعبوا دوراً في ذلك القرار. أولها، كان تبني السلطان/ الخليفة منذ الاحتلال البريطاني المباشر والسافر لإسطنبول في آذار/مارس 1920، لسياسة مناهضة للقوى الوطنية التي بدأت قبل ذلك حرب الاستقلال في الأناضول، واعتقاده بأن سياسة المهادنة للبريطانيين ستحافظ على ما تبقى من ملك. وهذا، ما حول الأناضول خلال العامين التاليين إلى ساحة لحربين وليس حرباً واحدة وحسب: ما يشبه الحرب الأهلية بين القوات الموالية لحكومة الخليفة وقوات المقاومة الوطنية، وحرب بين القوات الوطنية وقوات الاحتلال الأجنبي، واليونانية منها بصورة خاصة. عندما حققت القوى الوطنية انتصارها الحاسم في خريف 1922، واضطرت القوى الغربية لدعوة حكومة المجلس الوطني في أنقرة لمؤتمر صلح جديد في لوزان، دعت القوى الغربية حكومة اسطنبول أيضاً للمؤتمر، في محاولة لصناعة ثنائية في التمثيل العثماني.
هنا اضطر المجلس الوطني لاتخاذ قرار بإلغاء السلطنة في مطلع تشرين ثاني/ نوفمبر ، وإعلان أنقرة ممثلاً وحيداً. ولأن القرار كان بإلغاء السلطنة، فقد تم اختيار عبد المجيد الثاني خليفة جديداً. ولكن لا عبد المجيد، ولا عموم مسلمي تركيا والعالم، اعتادوا فكرة وجود خليفة بلا سلطة، خليفة باعتباره رمزاً دينياً وحسب، سيما بعد إعلان الجمهورية في العام التالي. وهنا بدأ مسلسل أزمات العلاقة بين الجمهورية وحكومتها، من جهة، ومؤسسة الخلافة، من جهة أخرى.
خلال الستة عشر شهراً التالية استشعرت أنقرة أن الخليفة يحاول توكيد سلطته بما يتجاوز كونه خليفة وحسب، وبدأت وفود من العالم الإسلامي ترد اسطنبول لتوكيد موقع الخليفة الجديد في العالم الإسلامي. وسرعان ما دبت الخلافات بين قادة حرب الاستقلال أنفسهم، سيما بعد أن اتضحت ميول مصطفى كمال للتفرد بالحكم، وتزايدت المخاوف من بروز تحالف قوة جديد بين معارضي مصطفى كمال ومعسكره ومؤسسة الخلافة. ولكن هناك خلفية أخرى خيمت على وضع الخليفة الجديد طوال فترة توليه القصيرة. ففي حين نظر قادة الجمهورية الوليدة بواقعية إلى ميزان القوى المختل حولهم، واعتقدوا أن عليهم الاكتفاء بحدود الدولة التي حققوا استقلالها، أوحى وجود مؤسسة الخلافة بأن على الجمهورية أن تحمل أعباء إسلامية لا تستطيع، ولا يريد قادتها، حملها. في ظل الصعود الغربي الهائل بعد الحرب الأولى، تصور كمال ومعسكره أن عليهم إدارة الظهر كلية لمشاكل العالم الإسلامي، المحتل كلية تقريباً من القوى الإمبريالية، أو أن يخسروا ما تبقى لهم.
ما يعنيه هذا أن قرار إلغاء الخلافة كان صنيعة أخطاء وتحولات وموازين قوى، في سياق تاريخي قاهر، أكثر منه مؤامرة من أحد. وخلال السنوات التالية، لم تتوقف محاولات إحياء الخلافة، ولا كان عدد الطامحين في الموقع قليلاً. الشريف حسين أعلن خلافته بالفعل بعد أيام قليلة من صدور قرار أنقرة.
وما أن أطاح التوسع السعودي بالأشراف في الحجاز، حتى بدأ الملك فؤاد محاولة أخرى. ولم يخف ملك أفغانستان رغبته في تولي المنصب المرموق. وحتى الثلاثينات من القرن الماضي، كانت هناك محاولة أخرى من الملك فاروق، وإن لم تأخذ صيغة رسمية. ولكن الزمان كان قد تغير، ليس فقط على صعيد ميزان القوى العالمي، ولكن أيضاً على الصعيد الإسلامي نفسه، الذي شهد صعوداً غير مسبوق للوعي القومي وللدولة القومية. اوليوم، كما الأمس القريب، لا يكفي لأن يعتقد أحدهم بصواب عملية إحياء الخلافة ليتمكن فعلاً من إحيائها.