يشكل الحياد في الصراع العربي
الإسرائيلي نوعا من الانحياز الأعمى لجريمة الاحتلال. فالمشروع الصهيوني ليس بحاجة إلى من يساعده عسكريا واستخباريا، ولا من يتفهم نزواته الجرمية؛ هو يحتاج إلى إغماضة عين لحظة وقوع الجريمة. وفي
غزة الآن، يصبح الحياد جريمة؛ فالقضية الفلسطينية وصلت مرحلة تصفية للوجود الفلسطيني، من خلال غطرسة إسرائيلية غير مسبوقة في تاريخ الصراع. فقد ظلت إسرائيل تخوض حروبها وتتمسك في الوقت نفسه بالمبادرات السياسية السلمية، إلى أن وصلت مرحلة تتنكر فيها إلى ما أنجز من اتفاقات سلام "تاريخية"، وتفاهمات مرحلية، ولم تعد تفرق بين محمود عباس عراب "أوسلو" المؤمن بالسلام، وبين خالد مشعل رافض "أوسلو" والمؤمن بالمقاومة.
وبعيدا عن الأسرار والجلسات المغلقة، في الصحافة يتضح أن الموقف من أبو مازن لا يختلف مصريا عن الموقف من مشعل، وأن رجل
مصر هو محمد دحلان؛ الفلسطيني الوحيد المرحب به في القاهرة. والمفارقة أنه بعد الحرب على غزة، وفي مقابلة مطولة بتوقيت غريب، أعلن دحلان أنه ذاهب إلى القاهرة لمساعدة الشعب الفلسطيني وتخليصه من نظامي
حماس في غزة وأبو مازن في رام الله. واستشعار أبو مازن لهذه الخطورة، دفعه إلى مواقف "راديكالية"؛ من قبيل طلب الحماية الدولية، وصار قريبا من "حماس" وحلفائها، وهو غدا بعد أمير قطر سيزور تركيا.
في هذه الظروف، ولدت "
المبادرة المصرية" مشوهة، وأحدثت ردة فعل سلبية، وارتباكا في مواقف المقاومة. فلا يمكن ولا حتى في مفاوضات السجون والأسرى، إطلاق مبادرة من دون استشارة الطرف الآخر؛ وكأن مصر شنّت غارة دبلوماسية على المقاومة لإظهارها أمام العالم بأنها الطرف الرافض لوقف إطلاق النار. ولم يعرف التاريخ مبادرة تطلق من دون استشارة المقاومة، وهو ما حصل -للمفارقة- في المبادرة الأميركية؛ فوزير الخارجية الأميركي جون كيري، حمل نفسه إلى الدوحة والتقى القيادة القطرية في سبيل التواصل مع الطرف الأساسي في المعادلة، وهو حماس. ولو كانت قيادة "حماس" تقيم في القاهرة كما حصل إبان عدوان 2012، لكان عنوان التحرك القاهرة.
ليس أخلاقيا ولا سياسيا المزاودة على الضحايا، ولا الانتقاص منهم. هم يقررون وهم المشردون من ديارهم منذ العام 1948 والمحاصرون منذ العام 2007، متى يحاربون ومتى يهادنون؛ قرار السلم والحرب لهم. وهم من يدفعون الثمن من دماء أطفالهم وذويهم. والمقاومة في هذه الحرب، ومع أنها في أسوأ الظروف، أثبتت قدرات غير متوقعة ميدانيا، وسط تناغم سياسي بين فصائلها، وتوزيع أدوار حتى مع أبو مازن. ليس مطلوبا أن تكون المبادرة غارة على المقاومة، بل غارة على المعتدي. لنتذكر ما فعله حافظ الأسد ورفيق الحريري في تفاهمات نيسان، وما فعله محمد مرسي في تفاهمات حرب غزة الثانية، لنعرف كيف تكون الدبلوماسية في خدمة المقاومة.
ليس مطلوبا من عبدالفتاح السيسي أن يفعل ما فعله مرسي بحسب ما كشفت كريستيان ساينس مونتيور؛ من أنه سهل دخول الصواريخ إلى غزة وهو رئيس، ولا أن يهتف مثله في السجن "لبيك غزة لبيك فلسطين". مطلوب منه أن يكون وسيطا لصالح شعب فلسطين. ولا يمكن أن يفهم كيف ينقل الأردن، وهو ليس من محور المقاومة، الجرحى بالطائرات إلى عمان وبموافقة إسرائيلية، ويعالج في مستشفى ميداني مليون حالة، فيما لا تفتح مصر معابرها! لا يفهم كيف يضغط على المقاومة بالمعابر المصرية بشكل أسوأ من المعابر الإسرائيلية. الخطوة الأولى فتح معبر رفح، وبعدها يصبح للمبادرة المصرية معنى!