عندما تضع الحرب أوزارها سيأتي وقت الحساب وتبين موازين القوى التي انبثقت عنه. لكن قبل ذلك يجب على فصائل المقاومة أن تحدد إن كان عرض كيري لوقف إطلاق النار مقبولا ولا يحقق مكاسب ميدانية عبر السياسية لإسرائيل لم تستطع تحقيقها بالوسائل العسكرية.
لنبدأ أولا من الحاضنة الشعبية واستهدافها من قبل إسرائيل في سياق عزلها عن المقاومة. ما لا شك فيه أن الحصيلة مأساوية وتعني مجزرة ضخمة على أجزاء يومية. آخرها وأكثرها تأثيرا إخراج طفل حي من بطن أمه الشهيدة. صراع حقيقي من أجل مقاومة الموت المستديم الذي تريد إسرائيل غرسه في عمق الفلسطيني. في أحد مواقع الدعاية الإسرائيلية تم نشر صورة لمن قدموهم على أنهم "معارضون لحماس في غزة يرفضون سياساتها".
طبعا هناك معارضون لحماس في غزة. لكن في خضم القصف والإبادة الفلسطينية لا تترك إسرائيل مجالا للانقسام الفلسطيني. هذا درس لم ولن تتعلمه إسرائيل. كلما ركزت عدوانها كلما خلقت شروطا موضوعية أفضل لوحدة الصف الفلسطيني. فأكبر أعداء إسرائيل هي طبعا إسرائيل نفسها.
من جهة أخرى لا يمكن الآن أن ترتكب مجرزة وتخفيها. أي مجزرة إسرائيلية قابلة للافتضاح في الربع ساعة الموالي. ولم يعد من المهم ماهي السياسة التحريرية لفكوس نيوز أو حتى سي أن أن لكي تتقرر صورة الإسرائيلي في الإعلام الدولي. الشبكات الاجتماعية قادرة على التفكيك المنهجي للمجزرة الإسرائيلية وهي الآن بصدد تحويلها إلى حالة نموذجية. بمعنى آخر المعارك الطويلة بالنسبة لإسرائيل تعني وقتا أطول لصياغة صورتها كوحش منفلت بعصا غليظة. وكل التبرير القائم على ضحايا الهولوكسوت يتهاوى مع كل الماكينة الدعائية المحيطة بها.
كما القتلى من الجنود الآن في تكاثر مع كل مواجهة جديدة. قتلى بالعشرات ومن أفضل ألوية جيش العدوان. معارك أطول تعني خسائر أكبر. والآن لا يستطيع الجيش وأجهزة مراقبته التحكم في ذهن المتلقي الإسرائيلي. انفلات واضح وواسع للمعلومة، بما يهرئ مصداقية الجيش أمام أعين الإسرائيليين قبل أي طرف آخر.
لننتقل إلى الاقتصاد. بعض الأرقام السريعة: خسائر الاقتصاد الإسرائيلي حسب وزارة المالية يمكن أن تصل إلى ثلاث مليار دولار مع احتمال تخفيض تصنيفها الائتماني. خسائر تراجع حجوزات الطيران حسب العال الإسرائيلية تترواح بين أربعين وخمسين مليون دولار. جمعية الفنادق الإسرائيلية أعلنت أن خسائرها تجاوزت الآن خمسمائة مليون دولار. الإنفاق الاستهلاكي للإسرائيليين تراجع بنسبة الخمسين بالمئة. الكلفة اليومية للعملية البرية ما يفوق خمسين مليون دولار.
والقبة الحديدية تكلف مائة ألف دولار على الصاروخ الفسلطيني هذا ويفوق عدد الصواريخ يوميا المئة صاروخ. خسائر مصانع تفوق الأربعمائة مليون شيكل حسب أرباب الأعمال. والتكلفية الجملية للعملية حتى الآن فاق الملياري دولار. هل يمكن للإسرائيلي أن يتحمل حربا طويلة؟ بالقطع لا.
وهنا يمكن أن نفهم مبادرات وقف إطلاق النار. المبادرة التي طرحها كيري والتي قبلها الطرف الإسرائيلي والتي تقضي بإمكانية تواصل عمليات جيش العدوان وحتى ضربه للأنفاق وقت "وقف إطلاق النار" واحتكار الوساطة عربيا على الجانب المصري تعني ببساطة محاولة تحقيق انتصار بوسائل سياسية عجزت عن تحقيقه الوسائل العسكرية.
الفلسطيني جرب الآن ما فيه الكفاية مفاوضات لا تستجيب لموازين القوى العملية ولا تستفيد منها. ولا يبدو أن الفلسطيني المدني سيقبل بعد هذه التضحيات الجسام العودة إلى المربع الأول دون رفع الحصار وتحرير الأسرى. والوصاية المصرية في ظل استعداء المقاومة في غزة وأهلها تبدو مهترئة. لن يحقق الفلسطينيون نصرا جازما لكن واضح الآن أن كل معركة جديدة ستخلق تراكما جديدا يعدل موازين القوى لمصلحتهم. في السابق كانت
الأماني كبيرة والوسائل ضعيفة. كان الارتهان إلى قاعدة عمليات خارج الحاضنة
الشعبية الفلسطينية عائقا مركزيا. الآن يعرف الفلسطينيون جيدا المكاسب الكبيرة من حرب عصابات على التماس من إسرائيل وفي حاضنة فلسطينية.
وسط الستينات زار وفد فلسطيني الصين الشعبية وطلب النصح من قادتها في طرق المقاومة. كانت النصيحة الصينية قوة محدودة من المقاتلين منغرسة في حاضنة شعبية فلسطينية على التماس مع إسرائيل تعتمد أسلوب اضرب واهرب. كانت الحكمة الصينية مبنية على تجربة الحرب الشعبية التي خاضوها في الثلاثينات ضد الاحتلال الياباني. وكانت الأنفاق أحد أهم الوسائل اللوجيستية في تلك المعركة. والآن الأنفاق تحديدا هي الهاجس الإسرائيلي الأول.