بيت الشعر الذي يسبب لي التهاب القرنية والأذن الوسطى هو: عيد بأية حال عدت يا عيد..........، ولو كان المنتبي حيا لطالب بحذفه من ديوانه وغوغل ويوتيوب، أو لجأ إلى قوانين الملكية الفكرية وحظر على الكتاب الصحفيين الاستشهاد به، فلا شيء يفسد علي فرحة
العيد مثل اجترار 90% من الكتاب الصحفيين العرب لبيت الشعر هذا، وكأنه في منزلة زكاة الفطر ولا يُقبل الصيام إلا بإيراده في مقالات البكاء على الأطلال، وأعتقد أن ولعنا بالمعلبات اللفظية يعود إلى علة في مناهجنا المدرسية، فقد كان المعلمون يثقبون رؤوسنا ويصبون فيها "البلاغة"، حتى نتعلم الكتابة بطريقة ابن العميد وابن المشير، بأن نحفظ ببغاويا ما يسمونه بالمحسنات البديعة، ولهذا تجدنا نتكلم عن "شخص ضخم الكراديس"، وزوجتي الثالثة طالق إذا كان 97% ممن استخدموا تلك العبارة 68663 مرة يعرفون أين موقع الكردس/ الكردسة من جسم الإنسان، أو كانوا يعرفون أين "أبو الرأس" بافتراض أنهم يعرفون أين "أم الرأس".
ولو ابتلاك الله وفتحت موضوع تعليم البنات، فستعاني بلاء عظيما وأنت تسمع أو تقرأ: الأم مدرسة إذا أعددتها/ أعددت شعبا طيب الأعراق، ويفوت على الذين يلوكون هذا البيت الشعري، أنه يوحي بأن المرأة قاصر وناقص وبحاجة إلى من يتولى "إعدادها"!! وهناك: وللحرية الحمراء باب/ بكل يد مضرجة يدق. أولا اللون الأحمر يخص الشيوعيين، ولكن طالما أن هناك كلمة "مضرجة" فقد يكون الاحمرار صفة للدم الذي لابد أن ينسكب حتى ينفتح باب الحرية.
فهل هذا البيت الشعري دعوة للنضال المسلح وبالتالي رفضٌ للتحول السلمي أو النضال السلمي طلبا للحرية؟ شخصيا لا أميل لتمجيد المهاتما غاندي وأسلوبه الخانع في مواجهة الاستعمار، وقد قرأت سيرته مرارا، وسقط من نظري وهو يقول للآلاف من مؤيديه: سيروا في موكب إلى قصر الحاكم البريطاني وسيضربونكم بالرصاص، فلا ترموا عليهم حتى نواة تمر، بل يسقط عدد منكم ويتقدم آخرون، وفي يوم واحد دفع غاندي بالمئات من أتباعه الى المقابر. ما علينا ولنعد إلى الحديث عن المعلبات اللفظية ومن بين أكثرها رواجا وبالتالي أكثرها تسبيبا للالتهاب القولون واللثة ذلك البيت الذي لابد أن أبا القاسم الشابي كان سيندم على تأليفه لو مدّ الله في أيامه: إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلابد أن يستجيب القدر.. ما يصير يا أبو القاسم! هذا كلام غير صحيح وغير سليم، فما من شعب عربي "أراد الحياة" إلا خسرها وفقدها، ولكن وخلال الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالفرعون حسني مبارك، الذي كان يريد لولده جمال أن يحمل لقب "الرِئيس المنتخَب"، فإذا به يحمل لقب "الحبيس المنتحب"، والتي كنت أتابع فعاليتها وقلبي على مصر وأهلها (جاءت ساعة الحسم وتم خلع مبارك وأنا في صالة المغادرة في مطار الخرطوم، وما أن سمعت النبأ حتى رقصت الدبكة والعرضة وعشرة بلدي، وكان في المطار مئات المصريين الذين ظلوا مرابطين هناك في انتظار فتح مطار القاهرة، و خلال دقائق كان صاحبكم مرفوعا على الأعناق وشهد ذلك المطار أول تظاهرة عفوية في تاريخه شارك فيها رجال الجوازات والجمارك والحمالون).
المهم أن عيني كانت لأيام متصلة معلقة بميدان التحرير في القاهرة مع قلبي، ومن بين آلاف اللافتات وجدت واحدة أعطتني الثقة في أن مصر ستكون بخير طالما أن رحمها ما زال خصبا ينجب مثل ذلك المبدع الذي كانت لافتته تقول: إذا الشعب يوما أراد الخلاص/ فلابد أن يستجيب البقر، وعنصر الإبداع هنا هو القول بأن الضغط الشعبي هو الذي سيرغم البقرة على التنحي، ولعل معظمنا يعرف ان اسم الدلع السري لحسن مبارك كان "البقرة الضاحكة" تلك المرسومة على علبة جبن لافاش كيري، وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإنني استحضر هنا واقعة رواها سفيرا سلطنة عمان واليمن الجنوبي – قبل الوحدة- في الجزائر عندما تم اختطافهما على يد جماعة إسلامية مسلحة في تسعينات القرن الماضي، وحاور المسلحون السفيرين في أمور الدين وأعجبوا بفهمهما العميق لجوانب كثيرة في الإسلام، ثم جاء الدور على شابة جزائرية "مسلمة" كانت مختطفة أيضا، واتضح أثناء محاورتها أنها لا تعرف حتى نواقض الوضوء، فسألوها: هل تعرفين اسم أي سورة من القرآن، فقالت: نعم.. سورة لافاش (البقرة بالفرنسية) فقتلوها.
والشاهد يا جماعة هو أن كل القرائن الظرفية تؤكد أن العيد "سيعود" والحال يغني عن السؤال، فارحموا أعصابي، ولا تبتذلوا شعر المتنبي بافتراض أن ذلك لن يضايقني في شيء، لأنه أساء إلى جدي كافور إساءات لم تأت حتى على ألسنة جماعة الكوكلاكس كلان في الولايات المتحدة بحق السود الأمريكان.