ثمة دلالات خطيرة ونتائج لا تقل عنها خطورة لأخطاء بعض الباحثين في دراسة وتوثيق أعمال
المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يجعل من الوقوف عند تلك الأخطاء ضروريًا لأسباب لا تتعلق بصدقية وجدية المهمة الأكاديمية التي يضطلع بها الباحث، ولكن وإن كان هذا مهمًا، فإن الأسباب الأهم هي تلك المتعلقة بالمقاومة نفسها، بل وبالصراع عمومًا مع العدو الصهيوني، وهذه الدلالات والنتائج سيتضح بعضها أثناء عرض ومناقشة بعض من تلك الأخطاء.
من المفيد، وبسبب من العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة، أن نبدأ بخطأ يشتغل في هذه الحرب، وسيستمر بعدها، وهو متصل عمومًا بالصراع، وبنظرتنا لأنفسنا وعدونا، وطريقة قراءتنا للأحداث وتطوراتها، وخاصة في قدرتنا على رصد تطور المقاومة في مستوياتها المتعددة، وهو ذلك الخطأ في احتساب خسائر العدو التي أوقعتها فيه المقاومة (الحديث عن الخسائر في جنود العدو)، حيث يعتمد بعض الباحثين أرقام العدو دون نسبتها إلى مصدرها، أي دون البيان بأن هذه هي رواية العدو، وكأنها حقيقة نهائية لا تستدعي حتى ذكر المصدر فضلاً عن البحث في دقة الأرقام، وهو تصرف لا معنى له إلا التسليم بصدقية العدو.
أهمية ذكر المصدر هنا لا تفرضها ضرورات الصنعة البحثية وحسب؛ ولكن تلزم بها طبيعة الواقعة أيضًا، فإغفال المصدر ينفي أن تكون الأرقام مجرد رواية لطرف من طرفين، وبالتالي فهذا ينطوي على نفي الطرف الآخر للواقعة، وهو المقاومة الفلسطينية بفصائلها المتعددة، فنفي الرواية الأخرى هو نفي لصاحبها، ما يذكّرنا بالشعار الصهيوني الذي ينفي الفلسطينيين تمامًا بقوله: "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
فالإشكال لا يتوقف فقط على الغش الذي يمارسه الباحث على قرائه وهو لا يبين لهم مصدر الأرقام، كسلاً أو لتعزيز آراء خاصة به، ولكنه يتورط ودون أن يقصد في مقاربة أصل الرواية الصهيونية، بنفي الطرف الآخر للصراع حينما ينفي روايته، وهو وحينما يخرج أرقامه من النزاع ويجعلها غير خاضعة للشك بالامتناع عن ذكر مصدرها، فإنه يعبّر عن وجه من الهزيمة حينما يتصور العدوَ مطلقًا تصدر عنه الحقائق، يفرض ما شاء بما لا يخضع للشك، بمعنى آخر بما لا يخضع للمقاومة، فهو إذن نفي للمقاومة.
فالإشارة إلى الأرقام بأنها مجرد رواية هو أقل الواجب في هذه الحالة، إذ أن تمامه باعتماد أرقام المقاومة الفلسطينية كرواية أخرى. وبداهة فإن الباحث في هذه الحالة سيكون أمام مجموعة من العقبات التي تستلزمها طبيعة الموضوعة، ومنها تعدد الفصائل الفلسطينية، ومبالغة بعضها في تصوير دورها ونتائج هذا الدور، واعتياد بعض الجهات على إصدار بيانات تفتقر للرصيد الفعلي، ووجود تنظيمات وهمية، إضافة إلى المناكفات الحزبية التي تهدف إلى إنكار أدوار الأحزاب المنافسة، ولكنّ وظيفة الباحث في الأساس هي ابتداع المناهج القادرة على استيعاب العقبات للوصول إلى النتائج الصحيحة، ومن ثم فالتذرع بمثل هذه العقبات كسل بحثي لا يليق.
في الحرب الراهنة، فإن كتائب القسام بما تمثله من بنية أساسية للمقاومة الفلسطينية وعمود فقري لها في هذه الحرب، وأكثرها فاعلية خاصة في المعركة البرية؛ أثبتت قدرتها على مراكمة قدراتها والاستفادة من تجربتها وتطوير أدائها في مستويات الإعداد القتالي والدعاية المعنوية والخطاب الإعلامي، بعيدًا عن الاستعراض والمبالغة في القدرات أو النتائج، مثبتة صدقيتها وكذب العدو في عدة حوادث تخللت المعركة. وحرصًا منها على مصداقيتها فإنها لا تحتسب من قتلى العدو إلا ما استوثقت منه وعاينته، وهذا لا يدخل فيه نتائج القصف ورمي آليات العدو، ما يعني أن قتلى العدو أكثر مما تعلنه الكتائب، وذلك كله ما ينبغي أن يأخذه الباحث بعين الاعتبار.
اعتماد أرقام العدو بالصورة التي جرى وصفها يكشف عن اعتقاد بأن العدو لا يكذب، وهو اعتقاد يلغي حقيقة الرقابة العسكرية من ناحية، وإذن فإن الباحث يلتزم دون أن يقصد بتعليمات الرقابة العسكرية الصهيونية، ومن ناحية أخرى يمنح ديمقراطية العدو أكثر من طاقتها إن كانت هي مُعتمد هذا الاعتقاد، فالحرب الوجودية المفتوحة التي يعانيها الكيان الصهيوني تُعسكر كل ما فيه من دولة ومجتمع وتخضعهما للمؤسسة العسكرية/الأمنية، فضلاً عن أن هذا الكيان تأسس أصلاً على الخداع والأكاذيب والتي كان منها الشعار الذي سبق ذكره.
وعدم اعتماد أرقام المقاومة، ينبئ أيضًا عن ضعف الثقة بها، أو عدم القدرة على رصد تطورها، وهو يعكس وعيًا سلبيًا كامنًا إزاءها، ربما بناء على التجربة التاريخية السلبية للمقاومة الفلسطينية في مراحل تاريخية ماضية تفشّت فيها مظاهر الاستعراض والارتجال والانفلات والمبالغة في الادعاء، وكأنها بحسب هذا الوعي تنطوي على جوهر ثابت، فهي ذاتها بلا تغيير مهما تعاقبت الأزمنة وتبدلت الفصائل! وإذن فلماذا نحاول ونقاوم طالما أننا لن نتغير ولن نتطور؟! إنه نفي آخر للمقاومة.
يعيدنا هذا النوع من الانطباعات كأساس لدراسة المقاومة، إلى بعض الدراسات التي وثّقت أو حللت أعمال المقاومة أثناء انتفاضة الأقصى، حيث انطلقت من انطباع لا يوجد ما يسنده في الواقع ومفاده بأن حماس لجأت إلى العمليات الاستشهادية في فلسطين المحتلة عام 48 كشكل وحيد للمقاومة المسلحة، بينما لجأت كتائب شهداء الأقصى إلى عمليات القنص والاشتباك مع جنود العدو أو المستطونين في فلسطين المحتلة عام 67، وهو الانطباع الذي أدّى إلى أن تُنسب كل عمليات الاشتباك في الضفة الغربية لكتائب شهداء الأقصى بما في ذلك تلك التي نفذتها خلايا كتائب القسام التابعة لحركة حماس، ما أفضى إلى فهم مشوه لطبيعة ما جرى في تلك الفترة، وهو ما انبنت عليه قراءات خاطئة حول التفكير السياسي لحماس، أو حول ظروف العمل المقاوم حينها.
اعتمد بعض الباحثين، إضافة إلى بيانات التبني الوهمية الصادرة عن الفصيل الذي نُسبت إليه كل عمليات الاشتباك أو القنص في الضفة؛ أخبار الصحف الصهيونية الصادرة حينها كمصدر لمعلوماته، أو مصدر يعزز ذلك الانطباع المسبق، وهو ما يكشف عن اعتقاد آخر يتصور الدقة والصرامة والمهنية العالية في تلك الصحف، أي المزيد من الأسطرة للعدو والانبهار به، ولكنه يدل أيضًا على كسل بحثي حال دون التحقق من صحة البيانات، أو الموازنة بين البيانات المتضاربة للفصائل المتنافسة، كما حال دون قدرة الباحث على اكتشاف واعتماد أدوات بحثية أخرى من قبيل إفادات المعتقلين في التحقيق ولوائح اتهامهم التي حوكموا في محاكم الاحتلال على أساسها ومذكراتهم وشهادات رفقائهم في المقاومة أو الأسر.. الخ.. وللأسف فإن الدراسات التي توثّق لتلك المرحلة الآن، وكما نلاحظ في بعض الدراسات الصادرة حديثًا، ورغم تقادم الزمن وتوفر الأدوات البحثية التي أشرنا إلى بعضها وانتفاء الالتباس والتضارب الذي كان حاصلاً إبان حصول تلك العمليات، لا تزال تتورط في نفس الخطأ كنتيجة للانطباعات المسبقة والكسل البحثي أو عن وعي قاصد، وهو ما يفضي إلى نتائج خاطئة وتوظيفات سياسية ضارة، لم تكن هذه الحرب أيضًا بمنأى عنها.