كان
طه حسين صاحب موقف اجتماعي، انحاز فيه إلى الفقراء والمحرومين، ضد الأغنياء والمترفين، ولقد زاد هذا الموقف التقدمي وضوحا بعد أن تحول طه حسين - منذ حقبة الثلاثينيات - إلى حزب الوفد، وتخلى عن أحزاب الأقليات التي كان كاتبها الأبرز في حقبة العشرينيات.
لقد كتب عام 1932م إبان الأزمة
الاقتصادية العالمية، التي مكنت المرابين الأجانب - وأغلبهم من اليهود - من رقاب الفلاحين
المصريين ومن مقدرات الرأسمالية المصرية الوطنية، فأخذوا ينزعون ملكيات المصريين بسبب الربا الفاحش والفوائد المركبة، تحت حماية الاستعمار الإنجليزي والامتيازات الأجنبية، كتب طه حسين عن هذا الوباء الربوي يقول: "في القرآن والحديث نصوص صريحة لا تقبل شكا ولا تحتمل تأويلا تحرم على الناس الربا، ويقال إن البرلمان المصري - وشيخ الأزهر الظواهري عضو فيه - قد أقر قانونين نفذ أحدهما منذ عام وسينفذ الآخر بعد أيام، وكلاهما يجعل الربا قاعدة من قواعد التعامل في بنك التسليف الزراعي، وفي بنك التسليف العقاري، وأموال الأزهر والأوقاف مودعة بالبنوك، وتدر الإيرادات".
وتساءل طه حين: "أليس نهي الدولة والأفراد والأزهر والأوقاف عن الربا آثر عند الله عز وجل وأحب إليه من مصادرة كتاب تراثي - "تاريخ بغداد" - لا لشيء إلا لأن فيه نقدا لأبي حنيفة؟! وأليس من اللعب الانصراف عن البغاء والربا والتبشير وتعطيل الحدود إلى مصادرة كتاب الخطيب البغدادي؟!.
وفي الأربعينيات، وبينما كان وباء الكوليرا يضاعف من محنة الفقراء ومآسيهم، كتب طه حسين كتابه الثوري "المعذبون في الأرض" الذي سلط فيه الأضواء على موقف الإسلام من العدل الاجتماعي، فكتب فيه عن تضامن عمر بن الخطاب وعن سخاء عثمان بن عفان، وعن إنفاق عبد الرحمن بن عوف، وطالب في هذا الكتاب بأن يكون في مصر "جيل من الناس لا يكون الرجل فيه عبدا للمال ولا موقوفا للثروة، وإنما يكون فيه المال عبدا لمالكه، وتكون الثروة فيه وسيلة إلى إعانة المنكوب وإغاثة الملهوف وإنقاذ المحروم، ثم إلى إثارة العاطفة الحلوة التي يجدها الرجل الكريم حين يحس أنه قد أعان منكوبا وأغاث ملهوفا وأنقذ محروما وبر صديقا وتصرف في ماله ولم يدع ماله يتصرف فيه".
وفي هذا الكتاب الثوري صب طه حسين جام غضبه على الأبرياء الذين أصبحوا عبيدا للأموال، فقال: "ولكن، هيهات! ليس إلى ذلك من سبيل، لأن أغنياءنا لا يقرأون، وهم إذا قرأوا لا يؤمنون، وهم إذا آمنوا لا يغامرون، وأهون عليهم أن يغامروا بالألوان في ناد من أندية الميسر وميدان من ميادين السباق، من أن يغامروا بالألوف في سبيل الله من سبل البر ليتبينوا أيصدقهم الله وعدهم أم لا.
إن الكثرة الكاثرة من هؤلاء الأغنياء لهم ألسنة طوال وعقول قصار، وقلوب قاسية كالحجارة بل أشد قسوة، لذلك فلا أملك نفسي أن أتلو قول الله عز وجل "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا "، ولا أملك نفسي أن أتلو قول الله عز وجل: "وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون".
ولقد أغضب هذا الكتاب الثوري التقدمي الملك فاروق، حتى لقد طلب من طه حسين عند حلفه اليمين وزيرا للمعارف في حكومة الوفد - يناير عام 1950م - أن لا يعود إلى مثل هذا الفكر مرة أخرى!
وإذا كان هذا الكتاب وهذا الفكر قد أغضب الملك، وكبار الأثرياء المترفين، فلقد أسعد الجماهير، وطلاب العدالة الاجتماعية، وتفوق على كثيرين من الحركات السياسية التي كانت تنشط في ميادين العمل والاجتماعي في ذلك التاريخ.
لقد واكب كتاب "المعذبون في الأرض" كتاب الشيخ الغزالي عن "الإسلام والأوضاع الاقتصادية"، وسبق كتاب الأستاذ
سيد قطب عن "العدالة الاجتماعية" وكان موقفا اجتماعيا وثوريا شجاعا في ذلك التاريخ.