الأقصى هو قلب التوترات في القدس، والأوضاع مرشحة لمزيد من التدهور بعد حادثة الأربعاء التي قتلت فيها طفلة عمرها ثلاثة شهور
قبل عشرة أيام من انطلاقه بسيارته ليدهس ركاباً ترجلوا لتوهم من قطار الميترو في القدس، متسبباً في مقتل رضيعة وجرح أربعة أشخاص آخرين، كان المقدسي
الفلسطيني عبد الرحمن الشلودي قد نشر على صفحته على الفيسبوك صورة للأقصى وألسنه اللهب تلتهمه وعليها عبارة "القدس في خطر، الأقصى في خطر".
بالنسبة للإعلام
الإسرائيلي، يثبت هذا البوست على الفيسبوك أن الحادث المميت كان هجوماً إرهابياً مع سبق الإصرار والترصد. قد يكون ذلك صحيحاً. إلا أن هذا البوست، في نفس الوقت، ما هو إلا انعكاس لمشاعر عميقة تنتاب الفلسطينيين في القدس، مفادها أن الأقصى يتعرض للهجوم وأن وجودهم هم في داخل المدينة بات مهدداً، وهذا مزيج يمهد على وجه التأكيد لانفجار قادم لعله لن يهز القدس وحدها، بل والضفة الغربية وغزة، إن لم يكن الشرق الأوسط بأسره.
بدأت سلسلة الأحداث العنيفة الحالية قبل ثلاثة شهور بمقتل الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير، والذي أضرم النيران فيه بينما كان ما يزال على قيد الحياة ثلاثة إسرائيليين انتقاماً لمقتل ثلاثة فتيان إسرائيليين في الضفة الغربية.
منذ ذلك الوقت لم تعرف الحياة في القدس طعم الهدوء، فقد جرت اشتباكات عنيفة مع الشرطة في مختلف الأحياء الفلسطينية، وتعرض الفلسطينيون للمضايقات في شوارع القدس الغربية، ويرشق الفتيان الفلسطينيون قطار المترو بالحجارة بشكل يومي تقريباً، وأقيمت نقاط التفتيش على مخارج الأحياء الفلسطينية، وشنت حملة اعتقالات جماعية شملت ما يزيد عن 700 فلسطيني.
"هذه السنة هي الأسوأ منذ عام 1967" كما يقول فخري أبو دياب، وهو ناشط سياسي فلسطيني من سلوان، نفس الحي الذي يقيم فيه الشلودي.
ولكن، وكالعادة خلال المائة عام الماضية في القدس، يبرز في قلب الصراع بين اليهود والفلسطينيين الحرم الشريف أو جبل الهيكل، كل حسب اعتقاده.
منذ أن وقعت القدس الشرقية تحت الاحتلال في عام 1967 وهناك من اليهود من يتطلع إلى "إزالة" المسجد الأقصى وقبة الصخرة أو ببساطة تفجيرهما حتى يتسنى لهم إقامة الهيكل الثالث في موقعهما. إلا أن هؤلاء، ولسنوات عديدة، كانوا ينشطون على هامش المجتمع الإسرائيلي ووقف في وجههم معظم الحاخامات الذي ادعوا بأن مجرد الصلاة في جبل الهيكل يعتبر انتهاكاً لحرمته.
تبدل هذا المناخ خلال السنوات القليلة الماضية، حيث اكتسبت الحركات الداعية إلى إعادة بناء الهيكل الثالث تأييداً ودعماً داخل معسكر اليمين، وبدأت تخفت الأصوات المعترضة على الصلاة في موقع الهيكل. زادت هذه الحركات من نشاطها منذ اغتيال محمد أبو خضير وذهبت تتحدى بشكل متصاعد الوضع القائم على الجبل، والذي يقضي حتى الآن بمنع اليهود من الصلاة هناك.
وهذه الأيام، يمر اليهود اليمينيون بالمساجد بشكل يومي ترافقهم حراسات من الشرطة، ويقفون في بعض الأوقات لأداء صلوات رمزية. وكلما حصل ذلك تندلع الاشتباكات مع المصلين المسلمين داخل المسجد.
الهدف السياسي لهذه الحركات اليهودية في غاية الوضوح، إنه "قيام الهيكل على أنقاض المسجدين، وهذا واقع لا شك فيه" كما يقول يهودا إتزيون، أحد زعماء الحركة، والذي أدين بالتخطيط لتفجير قبة الصخرة قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً. والفرق هذه المرة أن الناس من أمثال إتزيون باتوا يتمتعون بدعم سياسي خارج دوائرهم المعتادة والمحدودة.
خذ على سبيل المثال ميري ريغيف، عضو الكنيسيت اليمينية التي تترأس لجنة الشؤون الداخلية، والتي نظمت منذ يونيو (حزيران) 2013 أربع عشرة جلسة للنقاش حول الموضوع مقارنة بأربع جلسات عقدت لنفس الغرض خلال السنوات العشر التي سبقت ذلك.
في معظم هذه الجلسات يتعرض ممثلو الشرطة للنقد اللاذع لعدم سماحهم لليهود بزيارة جبل الهيكل ولتساهلهم الشديد مع المحتجين الفلسطينيين.
وأخيراً، حققت هذه الجلسات نتائج ملموسة.
فحسب إر أميم، وهي منظمة إسرائيلية "من أجل قدس منصفة ومستقرة"، ارتفع عدد القيود المفروضة على المصلين المسلمين في الأقصى بشكل حاد مقارنة بالسنوات السابقة. فمثلاً، حظر الدخول إلى المسجد الأقصى في رمضان الماضي على الرجال المسلمين دون سن الخمسين عاماً لخمس جمع متعاقبة.
يقول أبو دياب البالغ من العمر 52 عاماً والذي يصلي في المسجد الأقصى بانتظام بفضل تقدمه في العمر: "يريد هؤلاء اليهود أن يثبتوا أن الماضي ملكهم وحدهم. لا يسمح لك بتصويرهم، وإذا قلت الله أكبر أمامهم فإن ذلك قد يكلفك الطرد من الأقصى لمدة أسبوعين من قبل الشرطة".
في سبتمبر وأكتوبر، أثناء العطلة اليهودية الأخيرة – من روش هاشانا (نيو يورك) إلى سوكوت (تابيرناكلز) الذي انتهى قبل عشرة أيام – كانت المواجهات على التل حدثاً يومياً. إذ يرشق الفتيان الفلسطينيون "الزوار" اليهود بالحجارة بينما تطلق الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت داخل المسجد الأقصى نفسه.
في خضم هذه الأحداث والتوترات المتصاعدة وضع شلودي على الفيسبوك بوسته حول الخطر المحدق بالمسجد الأقصى.
إلا أن الصراع لا يقتصر على هذه القطعة الصغيرة من الأرض داخل القدس القديمة، بل انتشرت المشاكل من الأقصى إلى المناطق المحيطة به.
في الأسابيع القليلة الماضية انتقل المستوطنون اليهود إلى عدد من الشقق في حي سلوان، والذي يقع جنوب المسجد الأقصى على بعد مئات قليلة من الأمتار فقط. وغرضهم من ذلك واضح: توسيع دائرة سيطرتهم على سلوان وتحويلها إلى حي يهودي.
يرى أبو دياب أن هذا التحرك إنما هو جزء من خطة أشمل، "فحتى يتسنى لك الاستيلاء على المسجد الأقصى فأنت بحاجة إلى الاستيلاء على المناطق المحيطة به. هم لا يريدون العيش معنا، وإنما يريدون العيش بدلاً منا.”
لا تخفي عضو الكنيست ريغيف نيتها تغيير الوضع القائم في جبل الهيكل وتصر على أنها تناضل من أجل إقامة العدل وخلق الوحدة حتى يتسنى لكل مواطن في إسرائيل – سواء كان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً - أن يتمكن من الصلاة في الأماكن المقدسة لديه، وتقول: "ليس من المقبول أن يتمتع المسلمون بحرية العبادة في جبل الهيكل بينما لا يتاح ذلك لليهود".
والنموذج الذي ترنو إليه هو المسجد الإبراهيمي في الخليل، حيث خصص الجيش أياماً وأماكن منفصلة لصلاة المسلمين وصلاة اليهود. وتوكد على أن "ذلك يمضي على خير ما يرام في الخليل"، رغم أنها تحرص على ألا تذكر أن المسجد شهد مذبحة في عام 1994 حينما اقتحم مستوطن يهودي المسجد الإبراهيمي وأطلق النار على المصلين المسلمين فقتل منهم تسعة وعشرين.
لا يخفي قادة الحركات التي تنادي بإعادة بناء الهيكل الثالث آمالهم في أنهم متى ما سمح لهم بالصلاة في جبل لهيكل فإنهم سيتمكنون من جذب آلاف اليهود إلى المكان، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى "إزالة" المساجد الحالية.
تزعم ريغيف أنه "لا يوجد من يتحدث عن تدمير المساجد" وتصر على أنها بالتأكيد لا تؤيد مثل هذا التحرك، ولكنها في نفس الوقت تؤكد على أنه "إذا كان هناك أناس ينادون به فلا ينبغي منعهم من الصلاة في جبل الهيكل.”
وبحسب ريغيف فإن أولئك الذين لا يسرهم ضمان حرية العبادة في جبل الهيكل للجميع، بما في ذلك اليهود "أحرار في البحث لأنفسهم عن بلد آخر يعيشون فيه". أما الذين ينظمون الاحتجاجات فقد ينجحوا فقط في التسبب بإغلاق جبل الهيكل أمام الجميع.
كتبت ريغيف مقترحاً بقانون يقضي بالسماح لليهود بالصلاة في جبل الهيكل، وسوف يجري مناقشة مقترحها في الشهر القادم. إلا أن ريغيف واقعية، وتعلم أن الحكومة الحالية لن تسمح لمثل هذا المقترح بالمرور تفادياً للضغوط الدولية، والأردنية منها على وجه الخصوص.
ولكن حتى لو لم يكن متوقعاً حدوث تغيير دراماتيكي في ترتيبات العبادة داخل الحرم الشريف، إلا أن الخطر ما يزال ماثلاً، وآثاره واضحة على الفلسطينيين في القدس. تأتي هذه التطورات لتضيف إلى معاناة استمرت 47 عاماً من التمييز وهدم المنازل وتردى الأحوال المعيشية، والتي رافقتها مشاعر متنامية بانعدام الثقة والكراهية – وهذه كلها تعمقت بعد مقتل أبو خضير – ولتصبح مدينة القدس بسببها جاهزة للانفجار.
صحيح أن ما يجري الآن لا يشبه الانتفاضة المنظمة، ولكن القلاقل لا تحتاج بالضرورة إلى من ينظمها ويقودها.
ثمة إحساس لدى عامة الفلسطينيين بأنهم في مصيدة، يعبرون عنه عادة بعبارة "لا يوجد لدينا سبيل للخروج"، وقد يثبت هذا الإحساس المتعمق بأنه كاف لإشعال مواجهة أشمل. لقد نشأ الجيل الجديد على قناعة من أن إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة. وكما أخبرني أبو دياب: “حينما تشعر بأنه لم يبق لديك ما تخسره، فإن الانفجار يصبح وشيكاً جداً.”
قد يكون الرد على مقتل الرضيعة ذات الثلاثة شهور بالأمس إجراءات قمعية أشد صرامة من قبل الشرطة الإسرائيلية ضد المحتجين الفلسطينيين. ولكن، بمعاينة الوضع الحالي في القدس، يبدو لي أن مثل هذا الرد لن تكون أمامه فرصة كبيرة للنجاح.
ميرون رابوبورت – صحفي وكاتب إسرائيلي، حائز على جائزة نابولي للصحافة عن تحقيق أجراه حول سرقة أشجار الزيتون من ملاكها الفلسطينيين. عمل سابقاً نائباً لرئيس قسم الأخبار في صحيفة هآرتس، وهو الآن صحفي مستقل.
عن موقع "ميديل إيست آي"
ترجمة خاصة بـ"عربي21"