كتب
طلعت رميح: لم تخسر حركة
النهضة، بل هي نجحت في التأسيس لنجاح مشروعها. والخطأ كل الخطأ هو ذاك التصور الساذج بأن المشروع الإسلامي التغييري يمكنه أن يزيل ركام مئات من سنوات التخلف والاحتلال في عدة أعوام. كما الأهم في إنجازات الربيع العربي - في مرحلته الأولى خاصة - أن تنتقل المجتمعات من الاستسلام للديكتاتورية والتعايش السلبي معها إلى ترسيخ الديمقراطية في داخل بنية العقل الجمعي حتى لا يجري الانقلاب عليها، وبهذه الطريقة وحدها يمكن للنهضة أن تحكم دون الانقلاب عليها.
فازت النهضة حين خطت بالمجتمع
التونسي خطوة كبيرة للأمام، بالتوافق على أن الديمقراطية هي أساس قيام النظام السياسي، وحين تمسكت بالديمقراطية على حساب تنظيمها باعتبارها هدف الربيع العربي الأول وبديلها هو العنف والحرب والاقتتال، كما الحال السائد في الإقليم. لم يكن فوزها في
الانتخابات الأخيرة هو المهمة الأولى، والأغلب أنها لو فازت لانقلب الأمر على تونس وعلى النهضة وفوق رؤوس الجميع، مشروع النهضة قفز الآن خطوات كبرى ولو فازت في الانتخابات الحالية، لكان قد تعثر، قد يبدو الكلام غريبا، لكنه الواقع الأليم، فلو فازت النهضة لكانت الثورة المضادة، قد عادت بقوة محمولة ومستندة إلى وضع إقليمي ودولي شديد العداء للثورة التونسية والديمقراطية وللنهضة، وربما تحولت تونس من حالة الصراع الديمقراطي إلى وضعية الصراع الحربي والاقتتال الأهلي، مثلها مثل دول أخرى نجح فيها الإسلاميون عبر صناديق الانتخاب وانتهى الأمر إلى انقلاب عليها وعلى إرادة المجتمع، لم يكن متوقعا أبداً حال فوز النهضة أن يقول أحد إن الانتخابات جرت في نزاهة، كنا سنرى كثيرا من الأحزاب وقد أطلقت حناجرها تنديدا بالنهضة واتهاما لها باستخدام الدين لجذب الناس للتصويت لها، وكنا سنسمع أصواتا تتهجم على الثورة بل تتهم الشعب بالجهل، ولمن يشكك في ذلك فلينظر فيما يجري ضد أردوغان رغم سنوات حكمه وإنجازاته.
والأصل في التغيير الجاري في الربيع العربي، ليس تغيير النظام السياسي من الديكتاتورية وحكم الفرد إلى حكم الأغلبية، فقط، بل تغيير المجتمع وإعادة تأسيسه على قيم الديمقراطية وتأسيس وحداته وكافة مكوناته والهيئات النقابية والاجتماعية والسياسية على الإيمان بنتائج الصندوق أيا كانت، فالديمقراطية التي تصور البعض أنها نظام سياسي وكفى، تثبت التجربة أنها ديمقراطية هشة يمكن أن تتلاعب بها القوى السياسية واحدة تلو الأخرى. الديمقراطية قالت لنا إن نيلها ممكن لكن الحفاظ عليها دونه صراع مرير، باعتبارها مفقودة حتى في داخل بنية الأحزاب السياسية، وتلك هي القضية الأصل. ويمكن القول بأن الخطأ الذي طغى على عقول النخب التي تحركت في الربيع هو أنها تصورت أن بناء نظام سياسي ديمقراطي هو عملية تتعلق بصراعات النخبة لا بقناعات المجتمع ورضاه وتفاعله معها.
فازت النهضة ولم تخسر، ولم يكن متوقعاً من الشعب التونسي أن يعيد منحها صدارة المشهد بعدما رأى كل ما جرى حوله من معضلات سببها فوز الإسلاميين. أدرك العقل الجمعي التونسي أن الثورة لا تبني إنجازاتها بضربة واحدة وأن الثورة تقبل الانتقال التدرجي في هذه الظروف القاسية التي تعيشها الأمة، فقرر أن يمنح النهضة المقعد الثاني لا الأول لتكون صاحبة المقعد الأول حين تترسخ الديمقراطية، فلا يستطيع أحد اقتلاعها، قرر الشعب التونسي اتخاذ نفس القرار الذي اتخذته النهضة حين قررت التخلي طواعية عن الحكم والتفويض الذي منحه الشعب لها عبر صناديق الانتخاب، حتى لا تسقط البلاد في الفخ الذي نصب لها بحرفية وإتقان.
فازت النهضة بأن لم تتصدر المشهد الآن، إذ لم يكن بإمكانها أن تجلب الدعم الدولي والإقليمي المطلوب لإنقاذ البلاد من الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه. وفازت لأن غيرها بات عليه أن يتصدى للإرهاب، ولو كانت النهضة في الحكم لاتهمت بلين تعاملها معه، وربما بالعمل كحاضنة له حين تتحدث عن عوامل الديمقراطية والتنمية أساس للمواجهة، وفازت لأنه لم يكن من الممكن لها في هذه اللحظات الانتقالية أن تحقق نصرا مريحا يمكنها من إنجاز برامجها، ونداء تونس في مآزق الآن.
لكن شرط فوز النهضة أن تعمل على تعميق الديمقراطية ومواجهة الاستبداد ومحاربة الفساد، حين تختار المشاركة في الحكم أو البقاء في المعارضة.
(بوابة الشرق)