شكلت ثورة التغيير
اليمنية في فبراير 2011، فرصة سياسية كبيرة كان بإمكان جماعة مسلحة مثل مليشيات
الحوثي استغلالها للاندماج في النسيج الإجتماعي اليمني الحديث بعد سنوات من حمل
السلاح والاحتراب مع الدولة والعزلة المسكونة بالعنف.
لكن الجماعة، كان من الواضح أنها رمت خلفها تلك الفرصة. وبدلا من استغلالها للتخلص من وصمة
العنف التي لصقت بها على مدى ست جولات من الصراع المسلح مع الدولة (2004 – 2010)، فضلت تثبيتها والتمسك بخيار التوسع والسيطرة والانتشار بقوة السلاح.
ولقد حدث ذلك على عكس ما كانت قد أوحت به مع انطلاق ثورة 2011 الشعبية السلمية، حين حاولت أن تبعث برسالة إيجابية عبر مشاركتها في ساحات الاعتصام الثورية بصنعاء مع بقية القوى السياسية والوطنية الأخرى لإسقاط النظام القديم عبر الأطر السلمية.
لتوحي بذلك أنها قد قررت استغلال تلك اللحظة التاريخية الفاصلة كي تنحوا في خياراتها المستقبلية نحو العمل السياسي السلمي. إلا أن ذلك لم يكن سوى مجرد محطة تكتيكية، بدت - بحسب ما كشفته مسارات الأحداث لاحقا - وكأنها تصب في سياق مخطط تفصيلي وزع تنفيذه على مراحل.
تفاضلية العنف والسياسة
من خلال سير الأحداث، منذ تلك الفترة وحتى الأن، يمكن ملاحظة أن نزعة العنف التي انساقت إليه جماعة الحوثي كجزء متجذر في تكوينها، وضعتنا اليوم أمام مفترق طرق لوجهتين متباينتين كليا.
فمن وجهة نظر الحوثيين وأنصارهم ومؤيديهم، فأن رهانهم على السلاح، كمنهجية وحيدة لإحداث التغيير وتحقيق الأهداف، أثبت نجاعته إذ أوصل الجماعة إلى هذا التمكين الطاغي الذي أصبحت عليه اليوم كقوة صاعدة باتت تتحكم بالبلاد وتوجه مسار العملية السياسة أكثر من أي قوة أخرى، بعد أن فرضت سيطرتها المسلحة على العاصمة اليمنية صنعاء منذ 21 سبتمبر الماضي، إلى جانب تلك المحافظات والأجزاء الأخرى التي سبق وأن فرضت عليها سيطرتها الكاملة طوال السنوات الثلاث ونيف الماضية التي أعقبت الثورة الشعبية السلمية.
وفي الطرف الأخر، ينظر كثيرون إلى تفضيل تمسك جماعة الحوثي بمنهجية العنف لتحقيق أهدافها الخاصة وفرض سيطرتها وتمددها، بكونه خطأ جسيما ترتكبه الجماعة في لحظة كان بإمكانها تحقيق ما تريده عبر الأدوات والخيارات السياسية المتاحة بفضل ثورة التغيير الشعبية السلمية الأخيرة.
ويعتقد هؤلاء أن ما قد يبدو للجماعة اليوم من نجاحات حققتها بفضل القوة العنيفة، ليس سوى وهماً، ومن المؤكد أنه لن يستمر طويلا.
خصوصا وأن الجميع – وعلى رأسهم الحوثيين – يدركون جيدا أن ثمة عوامل ومسببات أخرى داخلية وخارجية – من غير قوتهم الخاصة – ساعدت على بلوغهم هذه الحالة الاستقوائية الاستثنائية العارضة. وبالتالي فإنه وبمجرد انقشاع تلك العوامل فمن المرجح كثيرا أن ترتد القوة وبالا على الجماعة. فيما لن يكون الوطن برمته في منأى عن الدمار الذي لن يستثنى منه أحد. كما تؤكد ذلك شواهد التاريخ في العنف والإقصاء.
وحتى بفرض تمكن الجماعة من تشديد قبضتها المحكمة على العاصمة صنعاء لتجنب تلك النتيجة الانعكاسية المتوقعة، تأسيسا على تجربتها في محافظات أخرى مثل صعدة (التي سيطرت عليها كليا في 2011 مستغلة الإضطربات المرافقة للثورة الشعبية الأخيرة)، أو محافظة عمران (التي اجتاحتها وفرضت سيطرتها عليها في يونيو الماضي)، فإن النتيجة النهائية، برفض معطيات العنف المفضية إلى تحكم الجماعة الدينية (التي مازالت نسبتها المذهبية – كطائفة شيعية - تشكل أقلية في اليمن مقارنة بالمذهب السني المقابل)، سيكون من الصعب – وربما استحالة – تجنب بلوغها. وها قد بدأت نزعات الجماعة المذهبية ومسالكها العنيفة والإنتقامية، مؤخرا في العاصمة صنعاء، تثير قلق واستهجان ورفض الكثيرين.
تفويت فرص التحول السياسي
في المرة الأولى فوتت الجماعة – عمدا - فرصة اغتنام تلك اللحظة الوطنية الثورية التاريخية، ضمن ثورة 2011، لما كان يمكن أن يشكل لها نقطة تحول تاريخية تفصل بين زمنين ومسلكين مختلفين: بين قديمها المصبوغ بالدم والحروب، وبين ما كان يفترض به أن يكون زمن ولادتها الجديدة من رحم الثورة الشعبية السلمية، وقد أتاحت لها – كما للجميع - التوسع والانتشار عبر أدوات وخيارات السياسة وتحقيق كافة الأهداف المشروعة عن طريق النضال السلمي.
وهنا أيضا – بعد احتلالها العاصمة صنعاء ـ فوتت مليشيا الحوثي فرصتها التاريخية الثانية المواتية للتحول إلى جماعة سياسية نشطة، وبحيث كان بإمكانها أن تصبح الأقوى سياسيا – لا عسكريا – على الساحة اليمنية. ولم يكن يتطلب الأمر منها سوى اتخاذ قرار جريء وحقيقي بسحب مليشياتها من العاصمة صنعاء بمجرد أن تم توقيع اتفاق وطني يتضمن – إلى جانب تنفيذ مطالبها الخاصة – مطالب حظت بشبه إجماع وطني. في وقت يفترض أن تكون حققت فيه أهدافها الاستقوائية والانتقامية - على السواء – بالقضاء على ما ظلت تتذرع به أنها مراكز القوى العسكرية التي حاربتها طوال الفترة الماضية، والقوى الدينية الأخرى المعادية لها فكريا ومذهبيا.
وبتعمدها تفويت مثل تلك الفرص، لمصلحة الاحتفاظ بالسلاح ومنهجية العنف، فقد عززت مليشيا الحوثي من تهمة كونها ليست سوى جماعة دينية مذهبية اقصائية مرتهنة للخارج، ولا يمكنها التخلص من وصمة العنف والتخلي عن حمل السلاح لتحقيق أهدافها الخاصة، تلك التي لم تعد تخفي أنها لم تكن سوى امتدادا لأهداف داعمها المذهبي الخارجي.
تأصيل واستغلال نزعة العنف
ولما كان الأمر على ذلك النحو المتكرر، فقد أمكن للبعض إرجاع عدم قدرة الجماعة في التخلص من ماضيها العنيف إلى أحد أمرين رئيسيين. الأول يعود إلى اكتساب نزعة العنف داخل أطر الجماعة وعقول قياداتها وأتباعها، بفعل سنوات القتال المتواصلة مع القوات الحكومية طوال جولات الصراع الست. الأمر الذي جعل من العنف أحد المكونات الأساسية لشخصية أفراد الجماعة. وفي حال تم التوقف عنه فقد تنتهي مقومات بقاء واستمرار الجماعة.
أما الأمر الأخر، فلا ينفصل عن سابقه ويأتي مترافقا معه ومكملا له. حيث تم استغلال نزعة العنف تلك بتغذيتها من الداخل والخارج لتحقيق أهداف مشتركة (تكتيكية وانتقامية وإستراتيجية).
وحين انطلقت ثورة فبراير 2011 لإسقاط نظام الرئيس السابق (علي صالح)، ربما لم تكن الجماعة تحلم بأكثر من القبول بها كواحدة من قوى المجتمع المواكبة لتطلعاته الثورية المشروعة، لكن تحركاتها التوسعية الخجولة على الأرض جعلت منها هدفا للاستغلال من قبل النظام السابق الذي تكفلت قيادات فيه، ومحسوبة على المذهب الزيدي الهاشمي، في إبرام صفقة سرية بتقوية ودعم جماعة الحوثي لتمكينها من فرض سيطرتها على المحافظات المجاورة لعاصمتها الرئيسية (محافظة صعدة).
وشيئا فشيئا ركبت جماعة الحوثي الموجة لتحقق انجازات كبيرة وواسعة على الأرض على مستوى السيطرة وتعزيز القوى البشرية والحصول على الدعم المادي واللوجستي. وتحول العداء مع قيادات ورموز النظام السابق إلى صداقة وتعاون مشترك وتحالفا غير معلن للتخلص من الخصوم التاريخين لكليهما.
ومع أن جماعة الحوثي رفضت الإعتراف بالمبادرة الخليجية (نوفمبر 2011)، إلا أنها قبلت الانضواء في مؤتمر الحوار الوطني الذي يعتبر الجزء الأهم في المبادرة. ومنذ البداية أثار هذا الانفصام السياسي التشكيك بكون الجماعة تسعى لاستغلال تواجدها في طاولات الحوار لإفشال نجاحه ونتائجه من الداخل في الوقت الذي يمنحها هذا التواجد السياسي جواز مرور لتحقيق تقدم على الأرض باحتلال مساحات جغرافية إضافية دون اعتراض قوي وحاسم خشية أن يؤدي مثل ذلك إلى انسحاب الجماعة من مؤتمر الحوار وإفشاله.
أضف إلى ذلك أن قبول الحوثي الدخول في مؤتمر الحوار، هدف منه أيضا شرعنة وجوده كقوة سياسية لا غبار عليها رغم أنها كانت ما تزال مليشيات خارجة عن القانون وتخوض حروب توسع وسيطرة على عدة جبهات ميدانية. كما وأن قبول هذه المشاركة جاء دون قيد أو شرط يقضي بضرورة أن تقوم أولا بتسليم الأسلحة الثقيلة المنهوبة من معسكرات الدولة.
مسار فرض القوة على السياسة
وعقب انطلاق ثورة فبراير 2011، بدأت جماعة الحوثي بفرض سيطرتها الكلية على محافظة صعدة، ثم توسعت أكثر لتحتل مواقع عسكرية وأخرى سكانية بمحافظات الجوف ومارب وعمران وحجة، لتستمر في فتوحاتها التوسعية بين الحين والأخر طوال فترة مشاركتها في الحوار. وقبل انتهاء الحوار بشهر واحد فجرت عدة جبهات أخرى في المناطق التي لم تكن قد سيطرت عليها في صعدة والجوف وعمران حتى وصلت حدود محافظة صنعاء دون أي تدخل يذكر من قبل الدولة والحكومة سوى بتوجيه وزير الدفاع اليمني أوامره لقادة المعسكرات بتسليمها للحوثيين، بالتزامن مع التدخلات الواضحة والمعلنة بدعم الحوثيين خارجيا من قبل طهران وداخليا من جهة رموز النظام السابق الذي دعم الجماعة بالقبائل والسلاح والتخطيط الفني والتنفيذ الميداني.
وحين استكملت المليشيات السيطرة على محافظة عمران (50 كم تقريبا شمال العاصمة صنعاء) كانت قد بلغت من العنف والقوة ما يجعلها تستغل لتصفية حسابات دولية – وليست محلية فقط – الأمر الذي فتح بابا كبيرا لمواصلة استخدامها كعصا غليظة لضرب ما أعتقد أنها مراكز قوى الإخوان المسلمين في صنعاء بدعم خارجي وأقليمي.
ولقد تجلى ذلك بوضوح من خلال تسليم العاصمة بدون مقاومة بعد فتح أبواب المؤسسات العسكرية والمدنية السيادية على مصراعيها للحوثيين وفق ما قيل أنها أوآمر عليا من وزير الدفاع.
في هذه الأثناء ما زال هناك من يعتقد أن المخطط الكلي لم ينته بعد، حيث يعتقد أن ثمة أمورا أخرى ما زال يعول على الجماعة المسلحة تحقيقها.
أما ماهيتها وطبيعتها فقد تنوعت التحليلات والسيناريوهات المتوقعة في هذا الشأن، لعل أبرزها دخول الحلفاء الحاليين (مليشيات الحوثي والنظام السابق) في مواجهات تصفيات ختامية لفلترة الطرف الأقوى للسيطرة والحكم. فيما أن أخطر التوقعات ترى أن ما حدث وسيحدث أنما يدخل في سياق مخطط مسبق لبلوغ انفصال جنوب اليمن عن شماله.