كتب مأمون أفندي: براءةمبارك ورجال نظامه - سواء كنت مع أو ضد- يمكنها أن تدخل مصر في النفق مرة أخرى إن لم نتجرد في التعامل مع المشهد واضعين استقرار مصر ومستقبلها نصب أعيننا ومصممين على ألا يعود ذاك النظام مرة أخرى بعد ثورتين (never again).
وهذا يتطلب منا مزاجا فكريا في طرح أسئلة ما جرى بهدوء ليس من أجل فهمه فقط بل من أجل طرح فهم يسهم في تثبيت السلم الأهلي لا الاضطراب والبلبلة في بلد في حالة سيولة. لا أدعي أن إسهامي هنا سيكون الأفضل ولكنني سأطرح بعض الأسئلة التي تأخذنا في طريق السلم الأهلي لا في طريق الفتنة.
مصر اليوم تتأرجح بين موقفين متطرفين يحكمان المشهد وكلاهما يحتاج إلى مناقشة جادة بهدف الترشيد: الموقف الاول ثوري وانتقامي يطالب بتطبيق أقصى العقوبة حتى إعدام الدكتاتور والموقف الثاني احتفالي يبرئ مبارك ورجاله من أي جريمة في حق الوطن، وسأحاول هنا أن أناقش هذين الموقفين بعقلانية وتجرد لتوضيح أن كلا الموقفين لا يصب في مصلحة مصر المستقبل التي نريدها للأجيال القادمة وليبتلع كل منا كرامته للحظة ويتبع منطق المقال إلى آخره ثم يرد عليه في النهاية.
بداية للقائلين بإعدام الدكتاتور أقول إن هذا لا يخرجنا مما نحن فيه، فقد أعدم العراقيون الدكتاتور وانقسموا بعد إعدامه ومرت عشر سنوات على الإعدام وكما ترى إعدام الدكتاتور لم يوصل العراق إلى استقرار رغم أن ثروات العراق أكثر من ثرواتنا ولكنه الآن بلد لا يمكن أن يتعافى ولو بعد عشر سنوات أخرى، فهل هذا ما تريده جماعة المطالبة بإعدام الدكتاتور أن تبقى مصر عشرين عاما في حال يشبه حال العراق؟
في ليبيا لم يعدم الدكتاتور بمحاكمة كما في العراق بل تم سحل القذافي في الشوارع ورميه بالرصاص والتمثيل بجثته. والسؤال هنا، هل نزعة الانتقام المتطرفة هذه ساعدت ليبيا على الوصول إلى السلم الأهلي والاستقرار، لقد قتل الليبيون القذافي وابنه وقطعوا أصابع سيف الإسلام التي هدد بها، فهل هذا الانتقام شفى غليل الليبيين مما فعله بهم القذافي ونظامه أم أخذهم في مدق الدماء لنرى بلدا الآن لا يمكن السيطرة على ما تولد فيه من عنف ورغبة جارفة في اتجاه الدم؟ ليبيا اليوم تحتاج إلى عشرات السنين كي تصل إلى الاستقرار، فهل هذا ما تريده جماعة سحل الدكتاتور وعائلته ومن معه لمصر في السنوات المقبلة. بالطبع لدينا ممن تتملكهم نزعة التفوق الوطني أو الشيفونية ممن سيقولون مصر ليست العراق وشعبنا ليس كالشعب الليبي إلى آخر العبارات التي لا تصمد أمام التحليل، نحن بشر لا نختلف كثيرا عن ليبيا أو العراق أو رومانيا بعد تعليق تشاوسسكوا وزوجته. الفارق في الحالات الثلاث هي ماذا فعل الشعب بعد الانتقام هل بنى عملية سياسية أخذت البلد في طريق النجاة كما في الحالة الرومانية أم أخذها نحو هاوية الفوضى الوطنية في حالتي ليبيا والعراق. الانتقام ليس حلا بل الحل في تثبيت إجراءات وطنية تمنع الدكتاتورية التي أخرجها الشعب بالأقدام من الباب ألا تدخل مرة أخرى من الشباك وهذا هو تحدي مصر الجديدة، وتحدي الرئيس عبدالفتاح السيسي من خلال عملية عدالة انتقالية منظمة تليق بمصر ومن خلال التأكيد لنفسه وللشعب أن نظام مبارك لن يعود وهنا لا أعني بالنظام الأشخاص بل الأفكار والقيم التي أوصلتنا لما نحن فيه، وأترك للقارئ تسمية ما نحن فيه، إن كان يراه انحطاطا أم نهضة ورفاهية بعد 30 عاما من نظام مبارك؟
أما فيما يخص الجماعات التي تسيطر عليها النزعة الاحتفالية بالبراءة فهنا أذكرهم بأن هذا لا يصب في مصلحة استقرار مصر، فالبراءة كانت على ادعاء محدد فيما يخص بيع الغاز لإسرائيل أما قضية قتل المتظاهرين فرفضت ولم تنظر. والحكم في هذا النوع من القضايا التي يلتف حولها الناس غالبا ما يكون في ساحة الوعي العام والرأي العام، فلو نظرنا إلى حالة محاكمة لاعب الكرة الأمريكي أوجيه سيمبسون الذى قتل زوجته نيكول سيمبسون وخادمه في لوس انجلوس، تلك المحاكمة الشهيرة التي استمرت لمدة تسعة أشهر بمتابعة تليفزيونية على مدى الساعة وفى النهاية حكمت المحكمة ببراءة أوجيه سيمبسون ورغم براءة المحكمة فإنه لا يوجد أحد في أمريكا باستثناء قلة في مجتمعات السود يرى سيمبسون على أنه بريء أو يعامله على أنه بريء الخطأ في قصة سيمبسون هو تطرف من كانوا يناصرونه بالغوا في احتفالهم ببراءة يعرف الناس أنها براءة أخطاء في أدلة الادعاء (أو ما يساوى النيابة عندنا) لا أخطاء في القاضي أو في الحكم. البريء في المحكمة استمر حتى اليوم مجرما ومذنبا أمام الرأي العام.
التحدي الذي أمامنا في قضية مبارك هو أننا قد شاهدنا الادعاء يفشل في تقديم أدلة عن الفساد وعن القتل معظم المصريين شاهد عليها فمعظمنا عشنا نظام مبارك ونعرف خيره وشره، فالدفع بأنه نظام بريء سيأخذ مبارك في طريق سيمبسون.
الأفضل لنا جميعا بأن نقبل حكم القضاء وندعم مؤسسة القضاء في مصر الجديدة وندعم إعادة تدريب النيابات لكي تصل إلى كفاءة تليق بالعدالة في مصر الجديدة، دعم القضاء وليس هدمه هو المطلوب منا الآن.
أحيانا بعض القوانين تكون غير عادلة مثل قانون الضرائب في أمريكا مثلا الذي ينحاز للأغنياء والشركات الكبرى، ولكن النظام في مجمله يوحي لمن يعيشون في ظله بأنه نظام عادل. علينا ألا نتمسك بصغائر الأمور ونرى المشهد الكلي ونقلل من روح الانتقام كما نقلل من الاحتفال بأمر يعرف معظمنا أنه لا يستحق الاحتفال.
أسئلة البراءة كثيرة ولكن يجب أن نتناولها ونضع نصب أعيننا أننا نبني مصر جديدة على العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية، ولأسئلة البراءة بقية.