على مقعد صغير داخل صالون للحلاقة في بكين، يدلك فو شيو رجلي إحدى الزبائن دون أن يتمكن من رؤيتهما.. شأنه في ذلك شأن آلاف
المكفوفين في
الصين الذين يعملون مدلكين، حتى إن مسار حياتهم الفريد شكل موضوع
الفيلم الأخير للمخرج الصيني لو يي.
فقد اختار هذا المخرج المتحدر من شنغهاي، المعروف بانجذابه إلى معالجة المواضيع الحساسة والمحرمة أحيانا، تخصيص اهتمامه في هذه المرة إلى قضية الأشخاص فاقدي البصر.
وقد استوحى لو يي فيلمه الجديد "بلايند ماساج" (التدليك الأعمى)، من رواية بي فيو بعنوان "العميان" الذي يروي سيرة مجموعة صغيرة من المكفوفين في مركز للتدليك العلاجي في مدينة نانجينغ شرقي الصين.
وقد يكون فو شيو من بين هؤلاء. فهو فاقد للبصر منذ ولادته قبل 38 عاما في عائلة من القرويين في هيلونغجيانغ، المقاطعة الواقعة في أقصى شمال الصين عند الحدود مع روسيا.
ويروي فو شيو قصة وحدته القسرية بسبب إعاقته البصرية، ساردا حكايا طفولته ومراهقته محاطا بعائلته وصديقيه.
ويقول "لم يكن لدي ما أفعله، وأهلي كانوا قلقين على مستقبلي، ففكرت بمدرسة للتدليك مخصصة للمكفوفين".
وبين سن الحادية والعشرين والسادسة والعشرين، تعمق فو شيو في دراسة تكوين الجسم البشري ونقاط الضغط المعتمدة في الطب التقليدي الصيني.
وانتقل فو شيو إلى تطبيق هذه المعارف بين الثالثة بعد الظهر ومنتصف الليل في صالون يؤمن له صاحبه المأوى، ويدفع له راتبا شهريا يوازي ما يتقاضاه العمال العاديون في الصين.
وخلال أوقات الراحة، يحب فو شيو التنزه في حديقة بكين أو الغناء الجماعي على طريقة الـ"كاراوكي".
ويقول إن "المكفوفين تتطور لديهم بشكل أكبر حاسة السمع وأيضا اللمس".
وتعد الصين ما يقارب 17 مليون ضرير بحسب الإعلام الرسمي الصيني، ومن أصل هذا العدد يعمل مئات آلالاف منهم مدلكين، سواء في صالونات أو في مراكز عناية.
وفي هذا الإطار، يشير المخرج لو يي في تصريحات لوكالة فرانس برس إلى أن "تعليم التدليك يمثل أحد أهم الحصص التي يتم تدريسها في المدارس المخصصة للمكفوفين في الصين".
ويضيف "الناس يعتقدون أنها مهنة سهلة بالنسبة للمكفوفين، وتسمح لهم بكسب عيشهم".
ويؤكد فو شيو مرتديا قميصا أبيض أنه "باستثناء الغناء والغيتار والتدليك، نادرة هي المهن التي يمكن للمكفوفين الصينيين العمل بها".
كما أن قلة منهم ينجحون في إيجاد شريك حياتهم أو في الحصول على عمل ثابت، وفق فو شيو.
وفي خلال تقديم كتابه، أوضح بي شيو أنه لا يستطيع أن يري المكفوفين العالم، بل على العكس يمكنه أن يري العالم المكفوفين. ومشى لو يي على خطاه مسلطا الأضواء على هؤلاء المنسيين من المعجزة
الاقتصادية الصينية.
وبجرأة تقنية كبيرة، صور المخرج بعض مشاهد فيلمه مع غشاوة متعمدة؛ كي يشعر المشاهد بقساوة الحياة بالنسبة للمكفوفين.
وركز لو يي في الفيلم على قصص الحب والخيبات التي يعيشها المكفوفون في مركز شا جونغكي في مدينة نانجينغ أكثر منه على أنشطة التدليك التي يقومون بها.
كما أن اليأس ليس بعيدا عن هؤلاء الأشخاص المعزولين، وبعض مشاهد يمكن أن تصدم المشاهدين.
وهذا المخرج معتاد على تقديم أعماله بشكل سري في بلاده، خصوصا بسبب الحظر الطويل للتصوير من جانب السلطات.
إلا أن فيلم "بلايند ماساج" حاز الشهر الماضي على ست جوائز، بينها جائزة أفضل فيلم في مهرجان الحصان الذهبي في تايبيه التي توازي جوائز الأوسكار على صعيد السينما الصينية.
كذلك فإن مهرجان برلين السينمائي كرّم هذا الفيلم في وقت سابق هذا العام مع منحه جائزة "الدب الفضي" عن أفضل مساهمة فنية.
وقد أخرج لو يي أيضا أفلاما عدة بينها "سبرينغ فوريفر" الذي يروي قصة حب بين ثنائي مثلي جنسيا، و"سامر بالاس" عن قمع تظاهرات "ربيع بكين" سنة 1989.
ومع الإعاقة، اختار لو يي هذه المرة موضوعا صعبا أيضا لكن "لم يعد من المحرمات اليوم كما كان سابقا" على حد تعبيره.
مع ذلك فإنه اضطر إلى التكيف مع متطلبات الرقابة الصينية.
ويقول "بعد أربعة أو خمسة أشهر من المحادثات، حللنا المشكلة. النسخة التي سيراها المشاهدون (الصينيون) مختلفة بعض الشيء عن النسخة الأصلية. إذ تم اقتطاع المشاهد الجنسية والعنيفة. أفهم ذلك لأن الصين تمثل سوقا لا يوجد فيها أي تصنيف للمضمون بالنسبة للمتفرجين".