قضايا وآراء

حركة النهضة في تونس وأسئلة اللحظة الصعبة

علي البغدادي
1300x600
1300x600
أخيرا أسدل الستار عن الانتخابات الرئاسية التونسية بفوز الباجي قائد السبسي على منافسه المنصف المرزوقي بـ 55% وهو أمر كان متوقعا بعد ظهور نتيجة الانتخابات البرلمانية السابقة، الأمر الذي جعل المتخوفين على الربيع العربي يضعون أياديهم على قلوبها خوفا من القادم، وجعل الناقمين عليه ينتشون طربا، وجعل المعترضين على سياسة النهضة التوافقية يومئون رؤوسهم قائلين: أرأيتم؟ 
ولكل طرف من الأطراف الثلاثة حجته الوجيهة وزاويته التي ينظر منها إلى المشهد التونسي، ولا يزال هناك طرف رابع يستقرأ الأوضاع المتقلبة ويحاول أن يسير بين الأمواج الهادرة ليصل إلى بر الأمان بأقل الخسائر.

كيف أدارت حركة النهضة سياستها في السابق؟

إذا أردنا أن نضع عنوانا لسياسة النهضة في مرحلة ما بعد الثورة فنستطيع أن نجملها في كلمتين: الواقعية والتوافق، فحركة النهضة التي فازت في أول انتخابات بعد الثورة لم يأخذها الغرور بهذا النصر بل أدركت أنه ردة فعل لوضع استثنائي لا يعكس توازن القوى الحقيقي على الأرض كما أدركت أن تونس تمر في تقلبات مرحلة التحول من الحكم الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي الأمر الذي يعطي الأولوية لتكريس نظام ديمقراطي يمنع عودة الاستبداد، لذلك لم تستفرد بالحكم بل أفسحت المجال لأحزاب أخرى مشكلة ترويكا الحكم، ورغم عدم تجانس أحزاب الترويكا أيديولوجيا إلا أنها صمدت في الحكم لمدة سنتين، وعملت النهضة على البقاء في منطقة الوسط ومحاربة الاستقطاب الإيديولوجي بين إسلامي وحداثي أو الاستقطاب الجهوي بين الشمال والجنوب، وسعت النهضة إلى توسيع دائرة التوافقات على أساس مبادئ الديمقراطية والحرية ومحاربة الفساد ودعوة جميع الفرقاء السياسيين للتحاور من أجل الوطن بما في ذلك السلفية الجهادية التي حاولت حركة النهضة إشراكها في العملية السياسية وعندما رفضت أدرجت النهضة أنصار الشريعة في قائمة الإرهاب.

لقد كانت سنة 2013 سنة عصيبة على تونس والمنطقة بأسرها وأوشكت مركبة الوطن على السقوط جراء تداعيات الانقلاب المصري، وأصبح ظاهرا أن دول الربيع العربي مهددة بالثورة المضادة المدعومة إقليميا بالمال والإعلام، وأن رأس ما يعرف بالإسلام السياسي مطلوب إقليميا ودوليا، وأن هذه الحالة تستدعي من حركة النهضة المزيد من الحذر والمشي بين الأشواك إذا أرادت أن تحمي الوطن من السقوط وأن تبقى حاضرة في المشهد السياسي، وكان عليها المزواجة بين إظهار القوة والتراجع عن صدارة المشهد، فتمكنت من تحشيد أكبر مظاهرة في تاريخ البلاد ضمت 300 ألف متظاهر في رسالة لإثبات حضورها الميداني ودعت للحوار الوطني الذي شارك فيه 22 حزبا تونسيا وتولت منظمات المجتمع المدني وعلى رأسها الاتحاد العام للشغل أمر إدارة الحوار، وقاومت محاولات نداء تونس بقيادة السبسي وهو أكبر فصيل معارض لاستدراج حركة النهضة لعقد صفقة لتقاسم السلطة بمعزل عن الحوار الوطني وهو أمر رفضته حركة النهضة تماما، وكانت نتيجة الحوار الوطني تخلي حركة النهضة عن السلطة منحازة للوطن على حساب الحزب، وإنجاز دستور توافقي يحمي هوية الشعب ويمنع عودة الاستبداد وإقرار القانون الانتخابي وتحديد مواعيد للانتخابات التشريعية والرئاسية.

حركة النهضة وإدارة الصراع السياسي

تنحصر أدوات الصراع السياسي في الدول المستقرة ديمقراطيا في الأدوات الدستورية، فالحزب يخوض منافسته بناء على قدرته على إقناع الناس بصوابية رؤيته وقدرته على إدارة البلاد مستخدما بذلك أدوات الاتصال الجماهيري والإعلامي والخطاب السياسي المؤثر في الرأي العام وإعداد واستقطاب الكوادر الحزبية الفاعلة وتشكيل التحالفات السياسية وتكوين شبكة الأمان الاجتماعي، ويكون الحكم في النهاية هو صندوق الاقتراع عبر الانتخابات الحرة والنزيهة وبإشراف قضائي مستقل. 

وهذا ما سعت إليه حركة النهضة للوصول بتونس إلى بر الأمان من خلال الأدوات الدستورية وعدم الانتقال بالصراع من الحالة الدستورية إلى الحالة غير الدستورية، وهذا هو مكمن الخطر، ففي الحالة الدستورية إن خرجت من الحكم اليوم لسبب ما تستطيع أن تعود إليه بعد تلافي ذلك السبب، أما في الحالة غير الدستورية فالمصير هو الإقصاء أو الفوضى وفشل الدولة.

ويبقى السؤال: ما هي إمكانية تحول الصراع السياسي من صراع دستوري إلى صراع غير دستوري؟

لقد كادت الأوضاع التي تلت اغتيال السياسي شكري بلعيد أن تؤدي بالبلاد إلى حالة من الفوضى والضياع، وقد عجزت الأحزاب السياسية في البلد عن تحقيق التوافق فيما بينها على مشروع وطني جامع، وإيجاد صيغة للخروج من الأزمة السياسية وعانت البلاد بوادر أزمة تهدد الدولة في وجودها وتعرضها لتكون دولة فاشلة، وقد برزت في ذلك الحين قوة المجتمع المدني التونسي ممثلا بالمبادرة التي طرحها الاتحاد العام للشغل التي صارت مبادرة رباعية بعد تبنيها من منظمات المجتمع المدني التونسي وقبلتها الأحزاب السياسية بعد تعديلها، وتجدر هنا الإشادة بدور الاتحاد العام للشغل الذي تناسى مناكفاته السياسية لحكومة الترويكا وتعامل مع المشهد السياسي بمسؤولية خوفا من تكرار السيناريو المصري، كما أظهر الرئيس السابق المنصف المرزوقي حنكة وواقعية واستخدم علاقته مع الحركة اليسارية في الاتحاد العام للشغل لتسييرها الحوار الوطني.

لقد كان الإنجاز الأكبر في تلك المرحلة هو تدخل المجتمع المدني التونسي وتحوله من موقع الخصم للحكومة إلى موقع الوسيط بين مختلف الأحزاب السياسية، فأخرج البلاد بذلك من أزمتها السياسية ومنع أي تدخل محتمل للجيش، والجيش التونسي عموما في تاريخه جيش بعيد عن السياسة ومهمش منذ زمن الحبيب بورقيبة، وهذه نقطة يجب وضعها في الاعتبار عند الحديث عن احتمالية تغير قواعد اللعبة السياسية في تونس وإن كان لا يجب استبعادها تماما.

أما المال السياسي فقد لعب دورا لا ينكر في المشهد التونسي، وقد ظهر ذلك من خلال عدة مظاهر منها سطوة الإعلام واستقطاب المثقفين والنخب، ولا تخفي أنظمة حكم عربية استنكارها للتجربة السياسية التي تقدمها تونس ورغبتها في إفشالها بعد أن باركت الانقلاب المصري، ورغم أن التونسي بطبعه لا يرتاح لمحاولات دول عربية اختراق الحالة التونسية فقد تربى في زمن بورقيبة على قيم الحداثة وأن تونس امتداد لأوروبا، لكننا يجب أن لا ننفي نفوذ المال العربي والدعم السياسي الذي يستهدف القضاء على التجربة التونسية وفي مقدمتها حركة النهضة.  
    
نسوق هذه الإشارات لنقول بأن محاولات حركة النهضة لإبقاء الصراع السياسي في إطاره الدستوري قد نجحت (حتى الآن)، ولذلك عوامل مختلفة منها ما هو متعلق بطبيعة المجتمع التونسي ووعيه وثقافته، ومنها ما هو متعلق بحنكة حركة النهضة التي عملت بشكل جاد على نزع كل فتيل أزمة يعوق عملية التحول الديمقراطي حتى لو كان الثمن التنازل عن الحكم، ومنها ما هو متعلق بالتركيبة السياسية التونسية التي احتكمت للحوار الوطني. وهذا لا يعني انتفاء خطر تعرض حركة النهضة للإقصاء إن بوسائل دستورية أو غير دستورية.

الخيارات الصعبة

كما فاجأت حركة النهضة المراقبين في انتخابات 2011 بوصولها لنتائج تقترب من النصف 42% كانت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة مفاجئة ولكنها مفهومة، فالحزب الذي يتصدر المشهد السياسي في المراحل الانتقالية، لا بد وأن يتعرض لهزة قوية وهذا ما حدث بالنسبة للأحزاب المشاركة في ترويكا الحكم، وكان أقلها ضررها هو حزب النهضة الذي تراجع حضوره إلى 32%، ثم تلت ذلك الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها السبسي وأظهرت انقساما مجتمعيا حادا، وهنا برزت الأسئلة الجوهرية وانقسمت الآراء.

ففريق قرأ الرسالة التي وجهها الشعب التونسي للنهضة بأنه يريدها أن تكون صوته القوي في المعارضة وأن عليها أن تقاوم إغراءات الدخول في حكومة السبسي وأن تسارع إلى تشكيل ائتلاف من الأحزاب المعارضة في البرلمان تكون مهمتها حماية مكتسبات الثورة ومنع العودة إلى الماضي مستفيدة بذلك من قوة المجتمع المدني وتضع الشعب التونسي في حالة تيقظ دائم، وأنها مطالبة بالتقاط أنفاسها بعد أن خرجت من ضغط الحكم وتقوم بمراجعة مواقفها السابقة والنزول إلى الشارع والانصهار مع المجتمع كحركة فكرية إصلاحية، وتعمل على تحسين صورتها في الداخل والخارج وامتلاك وسائل القوة في مجالات الاقتصاد والإعلام. 

وفي المقابل رأي آخر يعتبر أن المنطقة تمر بزوابع قوية وأن موازين القوى الإقليمية والدولية تستهدف ما يعرف بالإسلام السياسي وحركة النهضة في دائرة هذا الاستهداف، وبالتالي عليها الاقتراب أكثر من نداء تونس لعزل الجناح اليساري الانتهازي المتحصن به والذي يدعو علانية لإقصاء النهضة، والعمل على (تونسة) نداء تونس بما يعني تحصينها في الاقتراب أكثر من الدستوريين لعزل اليسار ومنع تفردهم بالقرار، وأنها بدخولها للحكومة ستحدث اختراقات في صفوف النداء وحلفائه وستكون حاضرة في القرار السياسي وتحمي مكتسبات الثورة ومنظمات المجتمع المدني ومنها الهيئات الإغاثية من الاستهداف، وقد كان قرار مجلس شورى الحركة في البقاء على الحياد في الانتخابات الرئاسية يصب في هذا الاتجاه لإبقاء الباب مواربا أمام احتمالية المشاركة في الحكومة المقبلة، وفي الوقت ذاته لم يكن يغيب عن قيادة الحركة علمها بالمزاج العام لقواعدها فاستعرضت قوتها التصويتية فالمرزوقي لم يكن ليحصل على نسبته التي حصل عليها لولا دعم قواعد الحركة له.

وكلا الرأيان لهو وجاهته وواضح للمراقبين أن قيادة الحركة تميل إلى الرأي الأخير، وهنا تظهر أهمية قوة القيادة في وضوح رؤيتها وإقناع قواعدها بصحة توجهاتها والحفاظ على تماسك صفوفها، وهي بذلك لا تملك خيارات كثيرة فالدائرة تضيق عليها شيئا فشيئا ويجب أن تحسب خطواتها بدقة وواقعية بعيدا عن العواطف والأماني. 

الكرة الآن في ملعب نداء تونس فهل ستتمكن من تشكيل تحالف حكومي بمعزل عن النهضة؟ أم هل سيتوافق (الكبيران) على تشكيلها؟ وما حجم الحصة التي سترضى بها النهضة إن دخلت الحكومة؟ أم ستشتد حالة الاستقطاب وتتمترس النهضة في مربع المعارضة لتنغص على النداء عيشته؟ 
حتى هذه اللحظة أظهرت حركة النهضة براعة وبراغماتية في التعامل مع الحالة السياسية وقدمت نموذجا متميزا في نزع فتيل الأزمات والخروج بأقل الخسائر من الأزمات المتعاقبة، وهي مطالبة بمزيد من الحنكة فالخطر لا يزال قائما والاستهداف واضح، والزوابع قادمة والمشهد متقلب.
التعليقات (1)
عبد القادر عبد الله عبار
السبت، 27-12-2014 07:19 م
مقال أكثر من رائع، وتحليل موضوعي للمشهد السياسي التونسي بصفة عامة، وطريقة إدارة النهضة للمرحلة ا?نتقالية في تونس بصفة خاصة، تلك الطريقة التي يمكن أن توصف بتكران الذات، والجديرة بأن يتخذ نموذجا قاب? للتطبيق في مناطق أخرى