توجد قناعة شبه راسخة لدى عدد كبير من البورونديين بأنّ "
الجنون" ليس مرضا نفسيا، وإنّما هو اجتياح للأرواح الشريرة لجسد الإنسان، فيجعله شاذا في تصرّفاته عن المألوف.
وبالتالي فإنّ شفاء تلك الحالة وطرد هذه الأرواح لن يكون في مراكز العلاج النفسية، وإنّما لدى المتخصّصين في مداواة مثل هذه الحالات الشائعة في البلاد، بحسب شهادات متفرّقة للأناضول.
"كيف لرجل في حالة طبيعية أن يتحوّل فجأة إلى إنسان
مسعور يجوب الشوارع، وينزع ثيابه على الملأ؟ طبعا هذا لا يعني سوى حقيقة واحدة، وهو أنّه مسحور!".
بهذه الكلمات المغرقة في انفعال من يقدّم حقيقة راسخة لا لبس فيها، استهلّت أديلايد، ذات الـ 65 عاما، وهي أمّ، تعيش في منطقة "ندافا" التابعة لمحافظة "سيبيتوكي" بالشمال الغربي البوروندي، حديثها للأناضول.
أديلاند قالت إنها لا تتحدّث من فراغ، وإنّما عن تجربة خبرت تفاصيلها شخصيا.. ففي أوائل 2003، فقد ابنها، وهو بدوره أب لـ 4 أطفال، مداركه العقلية فجأة..
قالت وهي تسترجع تفاصيل الواقعة "ذات صباح، لم أدرك أيّ شيطان وخزه (ابنها).. فجأة غادر فراش الزوجية عاريا، وغادر المنزل هائما على وجهه في الشوارع.. وبمجرّد خروجه، جاءت زوجته لإخطارنا، غير أنّ ابني كان قد قطع كيلومترات في اتّجاه بحيرة روسيفي، وهذا ما يؤكّد حقيقة أنّ ابني كان ضحية لأرواح شريرة خرجت من تلك البحيرة".
وبذات النبرة الواثقة، أكّدت أديلاند أنّ الخلاص من تلك الأرواح الشريرة التي تكبّل ابنها لن يكون إلاّ "عبر اللجوء إلى المعالج التقليدي"، وهذا ما حصل حين اصطحبت المريض إلى "معالج" كونغولي شهير في المنطقة.
لكن، ورغم أنّه كان على ابنها الخضوع لـ "علاج" المعالج لأكثر من شهر، إلاّ أنّه لم يتماثل للشفاء، وظلّ على حاله، و"منذ تلك الفترة، لم يره أحد، حيث يرجّح أنّه هرب من منزل المعالج وانتحر ملقيا بنفسه في بحيرة روسيزي".
وبسؤالها لماذا لم تصطحب ابنها إلى مركز للعلاج النفسي؟ أبدت والدته استغرابا من طرح سؤال مماثل، قبل أن تؤكّد أنّ زوجته مقتنعة تماما بأنّ زوجها "مسحور" من طرف شقيقه بسبب نزاع سابق بينهما حول قطعة أرض.
حالة ليست فريدة من نوعها في بوروندي.. سيدة أخرى في السبعين من عمرها، فضلت عدم الكشف عن هويتها للأناضول، قالت إنّ ابنة أختها اليتيمة أصبحت فجأة "مجنونة" في عام 2007، مضيفة "لقد اصطحبتها إلى أحد السحرة في المنطقة، بيد أنّ حالتها تدهورت أكثر".. متابعة "كان علينا إنفاق الكثير من الأموال لقاء ذلك، حتى أنّ المبلغ تجاوز الـ 500 دولار، دون الحصول على نتيجة مجدية".
وأمام تدهور الحالة النفسية للمريضة، اضطرّت خالتها لاستشارة مركز للعلاج النفسي بمنطقة "كامنج"، والمفاجأة هي أنّ "فتاتي تماثلت أخيرا للشفاء بعد 3 سنوات من المعاناة"، تقول السيدة، لافتة إلى أنّ معظم البورونديين يلجؤون إلى "الطب التقليدي" لمعالجة
المرضى العقليين.
طرح أيّده المسؤولون عن مراكز العلاج النفسي في البلاد، حيث أكّد مدير مركز "كامنج"، هيبوليت مانيراكيزا، في تصريح للأناضول، أنّ جلّ المرضى يزورون المركز في مراحل متقدّمة من المرض العقلي، فـ"هم يأتون بعد قضاء أشهر بل سنوات في التداوي لدى المشعوذين، وهذا ما يجعل مهمّة تهدئتهم وعلاجهم تتطلّب حيّزا زمنيا أكبر، لكن المهم أننا ننجح في النهاية في علاجهم".
الاضطرابات النفسية والعقلية مرض شائع في بوروندي، وجذوره تعود إلى جملة التحوّلات السريعة التي شهدها نمط العيش، سواء على مستوى ارتفاع نسب التحضّر أو العولمة الاقتصادية والهجرة وغيرها من العوامل، كما أنّ ارتدادات الأزمة السياسية والاجتماعية التي اجتاحت البلاد في 1993 كان لها دور في ذلك.
مانيراكيزا أضاف أنّ "خسارة الأرواح البشرية وانقطاع الأواصر الاجتماعية والحياة في الملاجئ والتشرّد، جميعها أسباب دفعت نحو فقدان الأمل والملل من الحياة".
وإلى ما تقدّم، تضاف لائحة أخرى من العوامل تشمل حالات القلق والضغط النفسي الناجمين عن الفقر والمجازر وحوادث المرور، والكوارث الطبيعية على غرار الفيضانات والحرائق، إلى جانب تفشي ظاهرة استهلاك المخدّرات في صفوف الشباب.. إنها توليفة تحمل جميع امتيازات الزجّ بالأفراد، وخصوصا من أصحاب النفسيات الهشة، ضمن خانة المرضى العقليين والنفسيين.
وتعرف بوروندي 3 مراكز للعلاج النفسي، وهي: مركز "كامنج العصبي" (1981)، ومركز "الرعاية الصحية النفسية في غيتيغا" (2011) ومركز "الأعصاب بنغوزي" أيار/ مايو 2014.
غير أنّ النقص الحاصل على مستوى التمويل والكوادر المتخصّصة، أغرق جملة المراكز المذكورة في الديون، وهو ما انعكس سلبا على جودة الخدمات المقدّمة للعملاء.
ويسجّل مركز "كامنج"، بحسب مديره، حوالي 10 آلاف استشارة طبية خارجية سنويا، ويستقبل 900 ألف حالة بمختلف أقسامه (بالنسبة للمرضى المقيمين)، وهي أرقام تعكس الحجم الضئيل لنسبة البورونديين، والذين يزيد عددهم عن العشرة ملايين بقليل، الذين يعرفون بوجود مراكز للعلاج النفسي والعقلي في البلاد، وهو جهل يبدو بديهيا بالنظر إلى حداثة الطب النفسي في بوروندي.