في المقال السابق تناولت الرهانات العشرة بإجمال ثم فصَّلت الحديث عن أول رهانين وانتهيت عند القول بأن منهج الإصلاح غير الجذري لم ينجح في إصلاح المؤسسات، كما أن الارتكان إلى الشرعية الدستورية كان ارتكاناً إلى قوة صورية سرعان ما ذهبت بها الثورة المضادة أدراج الرياح، وأن الشرعية الثورية هي الأقوى والأبقى للثورة.. وفي مقال اليوم نكمل الحديث عن الرهانات الثلاثة التالية.
الرهان الثالث: الرهان على الديمقراطية التنافسية التي تفرق الثوار والبديل أن تسود مفاهيم التشارك والتوافق في وقت الثورة، حيث تعد الانتخابات من أفضل ما اهتدت إليه الشعوب لتداول السلطة شريطة أن يحترم الجميع نتائجها بما يضمن حق الأغلبية في الحكم دون مناكفة أوإعاقة أو إفشال متعمد من المعارضة، وشريطة حماية حقوق الأقلية وعدم تهميش المعارضة أو ترهيبها أو دفعها دفعاً نحو العصيان أو إلجائها إلى العنف، وشريطة توفير الضمانات اللازمة للجميع لتبديد المخاوف وبناء جدار الثقة، إلا أنه في زمن الثورة لا يكون الانتخاب أوالتنافس هو الخيار الأفضل على الإطلاق لأن تحقيق أهداف الثورة يحتاج إلى حالة من الإجماع أو التوافق لقطع كل طريق ممكن أن تسلكها الثورة المضادة للعب على التناقضات بين أجزاء الجسد الثوري الواحد، كما يحتاج الى تحالفات جبهوية تضم مختلف قوى الثورة بعد أن تتخلى عن صراعاتها الحزبية الضيقة وتتجمع حول المصلحة الثورية العليا وتدرك أن الثورة في المراحل التالية قد تتعرض لإكراهات لا يستطيع أحد التكهن بحجمها فضلاً عن مجابهتها منفرداً.
لقد كانت الثورة أحوج ما تكون إلى جبهة للعمل الموحد وليس فقط إلى تحالفٍ لتنسيق المواقف ولكن الذي حدث كان بالتأكيد شيئاً آخر مغايراً لذلك كله، لقد تنافس الثوار في كل الاستحقاقات الانتخابية من أول التعديلات الدستورية في مارس 2011 انتهاءً بالاستفتاء على مشروع دستور 2012، ويذكر الجميع كيف كان الاستقطاب شديداً على شاشات التلفزة، وكيف كان الانقسام في شوارع وأزقَّة مصر حقيقياً، وكيف خرجت الثورة بعد هذا الاستقطاب منكسرة منقسمة على أسس أيديولوجية لم تكن حاضرة في أذهان الثوار الأوائل، وكانت نتيجة الاستفتاء الأول 77.2% نعم مقابل 22.8% لا، وأدرك خبراء الانتخابات أن النسبة الأولى ستكون تقريباً هي حصة الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية التالية.
وقد جاءت نتائج مجلسي الشعب والشورى مؤكدة لتلك التوقعات ومعمقة لتلك الانقسامات في آنٍ واحد، ثم جاء استحقاق الانتخابات الرئاسية والثورة منقسمة ولم ينجح رفقاء الميدان في الاتفاق على مرشح واحد للثورة يمثلها ويحقق أهدافها!! وخرجت الثورة بعد الجولة الأولى منهكة وان بدت في الأفق محاولات إيجابية جادة للتوحد خلف مرسي على قاعدة الثورة برغم أن بعض القوى المحسوبة على الثورة تخندقت في الخندق الآخر كأثر للاصطفاف الأيديولوجي الذي حل محل الاصطفاف الثوري، وجاء الرئيس المنتخب محمد مرسي وبذل ما بذل من محاولات لجمع الشمل ولكن جهود الثورة المضادة في الإعاقة والإفشال تغلبت على كل محاولات المصالحة ورأب الصدع، ومرت الأيام وزاد الانقسام وتعقدت الأمور بتمرير الدستور بالقوة الجماهيرية الديمقراطية بعد اليأس من التوافق حوله بسبب مباشر من دخول الثورة المضادة بقوة على الخط !!
ومهما يكن من أمر فإن الثورة كانت وما زالت تحتاج إلى المرور بمرحلتين سابقتين لأي تنافس انتخابي وهما:
1- مرحلة التوافق التي تبرز فيها قيم التوافق والتشارك والاصطفاف بين جميع قوى الثورة بعيداً عن الاختلافات الأيديولوجية الضيقة والخلافات الحزبية المفرقة، ولاسيما التوافق في القضايا والقرارات الاستراتيجية والمصيرية التي يتحتم أن تحظى بأغلبية كبيرة ، وتكون الثمرة الأبرز لتلك الفترة هي : التطهير الجذري للمؤسسات.
2- مرحلة التشارك السياسي والمجتمعي: ويتم فيها توسيع المشاركة لتشمل جميع قوى المجتمع مع تجنب تام لأي صراع حزبي أو تنافس سياسي، ويكون الهدف الأبرز هنا هو إعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على أسس تشاركية حقيقية ، وإنجاز وثائق سياسية تعبر عن آمال وطموحات الشعب في أجواء وحدوية.
وتكون ثمرة المرحلتين مجتمعتين هي تحقيق الاستقرار المجتمعي والاستتباب الأمني واستعادة المؤسسات لوظائفها وإعادة ترميم العلاقة بين أطياف وفئات الشعب على أساس من المواطنة واحترام الآخر وعدم التمييز، والتأسيس لإصلاح اقتصادي وتحقيق العدالة بأنواعها: قانونية واجتماعية وانتقالية، وبناء منظومة لحماية الحقوق والحريات وتحقيق حيادية الدولة وأجهزتها وتحصينها ضد الاستقطاب.
الرهان الرابع: الرهان على الشعبية الجماهيرية باعتبارها تعكس حالة ثقافية شبه مستقرة لأن زمن الثورة تتبدل فيه بسرعة ورعونة آراء الجماهير: من المهم لأي قوة سياسية أن تحرص على جذب الناس اليها بحيث تصوت لها في الانتخابات وتخرج لها في الساحات وتستجيب لها في الدعوات ولكن يبقى الخطأ أن ترتكن إليها وحدها، أو أن تطمئن إلى كونها ثابتة لا تتغير، راسخة لا تتبدل بحجة أن اتجاه الجماهير يعكس حالة ثقافية واجتماعية مستقرة، وأنها يصعب أن تتحول بسهولة في فترة قصيرة، وبرغم أن هذا الكلام يبدو منطقياً في الأوقات العادية إلا أن الأمر في الفترات التي تعقب الثورة يكون مغايراً وذلك لأسباب منها:
1-المزاج الجماهيري في أوقات الثورة بطبعه يكون مزاجاً تغييرياً انفعالياً يتقلب ويتحول بشكل سريع.
2-تغير المزاج الجماهيري له أسباب أخرى سيكولوجية واقتصادية، وقد ركزت الثورة المضادة على هذين السببين.
3- هيمنة الأذرع الإعلامية للثورة المضادة على وسائل الإعلام مكَّنها من لعب دور خطير في التأثير على الجماهير وتزييف وإعادة تشكيل وعيهم ومن التلاعب بالعقول والتشكيك في رموز العمل الثوري بشقيه الإسلامي والليبرالي.
4- ما أحدثته الثورة بشكل عفوي من رفع سقف الأحلام والطموحات الشعبية وهو ما أكدته الثورة المضادة عن قصد لتوريط الرئيس ، بجانب ما خلَّفه النظام السابق من مظالم اجتماعية واقتصادية ومن غياب تام للعدالة، كل ذلك جعل قطاعاً من الشعب لا يصبر على ما يعتقد أنه تباطؤ في تحقيق متطلباته.
5- الإدارة الالتفافية للمرحلة الانتقالية والتي برز فيها غياب دور الدولة وسفك دماء الثوار وعموم الفوضى والرخاوة وضعف الخدمات كل ذلك جعل البعض يراجع قناعته تجاه ما يمكن أن تحققه الثورة له من مكاسب.
6- الانقسام الحاد بين مكونات الثورة ساهم في تشويه الصورة الذهنية للثوار بحيث بدا الأمر وكأنه صراع على كراسي وليس صراعاً بين ثورة ونظام فاسد مما جعل قطاعاً من الشعب ينفض عن الطرفين.
7- ما سببته الفترة الانتقالية من إكراهات جعلت بعض القوى تغير من تعهداتها أو تبدل من مواقفها أو تعدل من خطابها أو تغير من تحالفاتها بغض النظر عن كون تلك الإكراهات مبررة متفهمة أم مرفوضة مستهجنة.
8- ما قامت به الأجهزة من إرباك وإعاقة وإفشال للسلطة المنتخبة.
ومهما يكن من أمر فإن ما ذكرته لا ينبغي أن يفهمه القارئ الكريم بمعزل عن الحقائق التالية:
1-الشعبية الجماهيرية تقاس في الديمقراطيات عن طريق صندوق الانتخابات الذي حفظ تفوقا ملحوظاً لمن تم الانقلاب عليهم حتى آخر استحقاق أجري قبل الانقلاب ببضعة شهور.
2- القوة العسكرية الغاشمة استعانت بالشعبية الجماهيرية المفبركة للانقلاب على المنتخبين.
3- انخفاض شعبية الثورة كان نتيجة للتآمر عليها من الثورة المضادة ، كما كان نتيجة لتفرق مكوناتها ولغياب الوعي الثوري.
الرهان الخامس: الرهان على المحاكمات القضائية والبديل هو العدالة الانتقالية: لقد كان القصاص من قتلة الثوار مطلباً ثورياً من أجله عقدت المحاكمات الثورية الشهيرة في ميدان التحرير استلهاماً للمحاكم الثورية التي تمت في الثورات المتعددة: الفرنسية والبلشفية والإيرانية، فلما سقط مبارك تولى السلطة مجلسه العسكري وهو جزء لا يتجزأ من النظام الذي قامت ضده الثورة وإن حاول كذباً الظهور بمظهر المنحاز لها وسار بالأمور بعيداً عن هدف الثوار، وأحكم عملية الخداع بإلقاء القبض على أهم رموز نظام مبارك!!
وتوهم البعض أنه من الممكن محاكمة نظام استبد وأفسد ثم قتل الثوار محاكمة جنائية تنتصر لدولة القانون ولحقوق الشهداء والمصابين دون انتقام أو عنف أو تعسف، ونسوا أو تناسوا الموانع القوية التي تحول دون ذلك ومنها:
1- أنه ليس من المنطقي أن تتعاون قيادات الشرطة وهم قتلة الثوار في إدانة أنفسهم بالحفاظ على الأدلة الجنائية التي تتكفل بتسليمهم إلى حبل المشنقة.
2- الفساد المستشري في أروقة النيابة العامة ودوائر القضاء، والذي ظهر وتأكد فيما بعد!! والذي أكد ضلوع قيادات قضائية في قيادة جناح هام في الثورة المضادة حاكم الثوار وحكم عليهم بإعدامات جماعية (528 شخص في محكمة جنايات المنيا وحدها) في حين قام بتبرئة رموز الفساد والقمع، حتى مبارك نفسه حصل على البراءة، وأعتقد أن الرسائل التي أرسلها القضاء الى الثورة في أعقاب سقوط مبارك ساعدت في إحكام الخداع ومنها حكم حل الحزب الوطني!!
3- الفساد والفراغ التشريعي وهو نتاج للدور الخطير الذي مارسه ترزية القوانين خلال ثلاثة عقود.
4- مشاركة بعض الأجهزة التي خططت مبكراً للإجهاز على الثورة في إدارة تمثيليات المحاكمة لتنتهي بتبرئة نظامهم الذي ينتسبون إليه!! وأذكر هنا تصريح السيسي بأنه لن يحاسب أو يحاكم أي ضابط لأنه قتل أحد المتظاهرين !! وكانت النتيجة النهائية هي إفلات القتلة من المحاسبة وتبرئة مبارك ورموز الفساد معه.
وجديرٌ بِنَا أن نذكر في هذا المقام أهم الجهود التي بذلها الرئيس مرسي لمحاسبة قتلة الثوار ومنها تشكيل لجنة تقصي الحقائق وعزل النائب العام وتولية نائب عام مشهود له بالنزاهة وإنشاء ما يسمى بنيابة الثورة، إلا أن تفرق الثوار وتحرك الثورة المضادة وتواطؤ المؤسسات وغيرها من الأسباب حالت دون محاسبة القتلة وساهمت في إفلاتهم من العقاب.
ومهما يكن من أمر فإن العدالة الانتقالية المنشودة ليست عدالة انتقامية هزلية ولا عدالة المنتصرين في المعارك ضد من حاربوهم ، ولكنها عدالة توضح بشفافية حقائق الماضي الأليم وتتعامل معها بقوانين منضبطة بغية تجاوز الماضي وضماناً لعدم تكرار الانتهاكات والفساد، وتتحقق بإصدار قانون للعدالة يستبطن نجاحات كما يتلافى إخفاقات التجارب المتعددة للدول التي سبقتنا إليها، ويكون الهدف منه هو بناء حقيقي للسلم الأهلي والاجتماعي يضمن القضاء على ظاهرة إفلات الجناة من العقاب من ناحية، ويرسخ احترام حقوق الضحايا من ناحية أخرى عن طريق التحقيق في كل الانتهاكات السابقة ومعاقبة الجناة وتعويض الضحايا ومنع وقوع انتهاكات في المستقبل، وتتحقق العدالة الانتقاليةبأدوات أهمها: الدعاوى الجنائية، لجان الحقيقة والإنصاف والمصارحة، وبرامج التعويض وجبر الظلم، والإصلاح الجذري المؤسسي بإعادة الهيكلة والتطهير الكامل ، وجهود تخليد الذكرى وبناء الذاكرة الجماعية.
مما سبق يتبين خطأ كل من: المراهنة على الديمقراطية التنافسية، المراهنة على الشعبية الجماهيرية، و المراهنة على المحاكمات القضائية.