إعاقة الديمقراطية العربية

نستعير العنوان من تشومسكي لنثير مسألة تبدو في غاية الأهمية لمسار بناء الديمقراطية العربية في فجر الربيع العربي المتردد، الفجر الذي كلما قلنا أن شمسه بزغت وجدنا الفاشية العربية تقف له بالمرصاد.

 والفاشية، التي نعني هنا، ليست فقط  الطغم العسكرية التي قرصنت آمال الحرية  منذ فجر الاستقلالات العربية في منتصف القرن العشرين، بل هي أيضا تيارات سياسية لم تطرح على نفسها الاشتراك في البناء مع مختلف مكونات المشهد السياسي العربي المتعددة والمتنوعة، بل إنها بدورها وللمفارقة العجيبة كانت ضحية من ضحايا الفاشية العسكرية، وتحملت قسطا كبيرا من القمع والمنع السياسي، وذاقت السجون والمنافي، لكنها مصرّة على إعادة إنتاج تقاليد الإقصاء السياسي لمماثليها من الضحايا.

إننا نعني هنا تيارات اليسار العربي القومية منها واليسارية الصرفة، وهي تعمل الآن على إعاقة الديمقراطية مضحية باحتمالات تطور تجربة تحرر واسعة قادرة على إنتاج وضع سياسي ليبرالي يسمح بدوره للجميع بالتعبير عن ذاته، والعمل وسط الشعوب المحرومة من الحرية لإنضاج تجربة حكم سياسي تقدمي.

الانقلاب سبيل لإعاقة الديمقراطية

يمثل أمامي هنا اليسار المصري الذي تحالف مع العسكر في انقلاب صيف 2013، واليسار التونسي الذي خرب تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، حتى انتهت التجربتان بعودة مظفرة للنظام القديم، ليواصل بوسائله غير الديمقراطية التحكم في أوضاع سياسية واقتصادية خربة ومقبلة على المزيد من الخراب الاجتماعي وتفتح على مجهول اجتماعي. 

مساحة الحرية الدنيا التي أتيحت بعد انطلاق الثورة العربية (الربيع العربي) أدت إلى تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية قبل الجميع (من اليسار والعروبيين والإسلاميين) خوضها على قاعدة تنافس ديمقراطي تقليدي.

منحت الانتخابات تقدما كبيرا للإسلاميين ومكنتهم من الحكم، لكن شركاء الانتخابات القابلين بها من حيث المبدأ لم يسعدوا بالنتيجة، فانقلبوا عليها، وتحالفوا ضد الشركاء الإسلاميين مع النظام القديم، ما أفسد البدايات السليمة (أو المتفق عليها)، لنعود إلى نقطة صفر يستفيد منها النظام القديم، ويرمي الجميع في أتون القمع والحرمان الذي يتقن إدارته منذ نشأ، وينطبق الأمر على البلدين بأشكال متقاربة.

وجد الكثير من التيارات العروبية مهربا في نظرية المؤامرة المدبرة، وروَّجوا لأطروحة تقول بأن الربيع العربي ما هو إلا خطة إمبريالية (أمريكية وصهيونية) للسيطرة والتحكم في مقدرات الأمة للقرن 21، وما الإسلاميون إلا شركاء في المؤامرة، وخاصة بعد التدخل العسكري المباشر في لبيبا والإرهاب(الوهابي) في سوريا، ما أعطى لنظرية المؤامرة بعض المصداقية.

لكن الطرح السابق كان له أن يكون صادقا لو واصل أصحابه الثورة ضد النظام القديم وضد الحركات الإسلامية في وقت واحد، ما يجعلهم يقودون ثورة حقيقة استقلالية الطابع والهوى، لكن النظرية وأنصارها انتهوا مستلحقين للنظام القديم، وهو الأمر الذي دفع إلى المزيد من التناحر السياسي الذي استفاد منه الأجنبي والنظام القديم في وقت واحد، ما أعطى للإسلاميين مصداقية أكبر في طلب التحرر من القديم والأجنبي معا.

ولم تكن نظرية المؤامرة إلا ذريعة لعدم الاشتراك في التغيير الديمقراطي مع الإسلاميين أنفسهم، وهنا تبين الوجه الفاشي لهذه التيارات، وجعلها إعاقة حقيقية للديمقراطية الناشئة، بل ربما تكون قضت عليها، وأدخلتها مرحلة الدفاع عن الحد الأدنى المكتسب من الحريات.

الوجه الفاشي لليسار العربي

يتجلى هذا الوجه في المنطلقات وفي الوسائل المتبعة من قبل هذه التيارات.
أما المنطلقات فهي العمل طبقا لمبدأ ثابت، هو القطيعة السياسية والتنظيمية مع التنظيمات والتيارات الإسلامية، باعتبار أنها صنيعة الإمبريالية، وهي تيارات خيانية لا يمكن الوثوق بها أو التعاون معها.

وهو الطرح الذي بنى عليه اليسار العربي والقوميين العرب موقفهم من هذه التيارات قبل الربيع العربي، وتحالفوا على أساسه مع الأنظمة العسكرية والعميلة، ولم يُرَاجَعْ الموقف القديم المتكلس، بل ترسَّخ بعده، ورغم المشاركة في منافسة انتخابية مع هذه التيارات (بما يفترض حالة من الاعتراف المتبادل)، أعادت  الخسارات الانتخابية إنتاج الموقف والسياسات المتبعة، التي انتهت بخدمة النظام القديم باعتبار التناقض معه تناقضا ثانويا مقابل تناقض جذري وأصلي مع الإسلاميين.

أما الوسائل فهي التخريب المستمر لحكم الإسلاميين الذين فوضتهم الانتخابات، وكان هذا جليا في تونس لجهة استعمال النقابة القوية التي سيطر عليها اليسار في غياب الإسلاميين في السجون والمنافي قبل الربيع العربي، ما مكنهم من وسيلة تحشيد وتعبئة هدفت إلى جعل تجربة الإسلاميين تنقلب خرابا وفشلا ذريعا نفّر الناس منهم ومن طريقتهم في إدارة الشأن العام في مرحلة انتقالية صعبة.

لقد بلغت الإضرابات في تونس زمن حكم الإسلاميين وحلفائهم من الليبراليين رقما قياسا، فاق 30 ألف إضراب، لا ينقطع إضراب إلا ليستأنف آخر، وعطلت أهم صادرات البلاد، وأهم مصدر للنقد الأجنبي فيها(الفوسفاط). أما النتيجة فهي ماثلة للعيان الآن في مصر وتونس.

كل الحجج صالحة للتبرير الإقصائي

يستعيد اليسار الآن في تونس خاصة، وبعد أن عاد النظام القديم ليحكم بقوة  نظرية المؤامرة، ليقول إن الربيع العربي مؤامرة وضعت في دوائر إمبريالية لتمكين النظام القديم من تطهير ماضيه، وتنظيف الإسلاميين من أدران العمالة، ولم يكن له من غاية إلا إقصاء اليسار العربي التقدمي الثوري المنتبه وحده لحيل الإمبريالية والصهيونية.

ويغفل في هذا السياق التحالفات الظرفية المريبة مع بلدان النفط، وأشدها تطرفا ضد الديمقراطية، بل التَّمَوُّل منها انتخابيا، والترويج لأطروحاتها في معاداة الإسلاميين، وهي الأنظمة التي حازت أكبر قسط من التبخيس من أقلام اليسار وأعلامه طيلة وجود هذا اليسار في المنطقة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية والمتاجرة بها في المحافل الدولية.

لقد نسي اليسار العربي نصير النظام العراقي السابق دور أنظمة الخليج في إعاقة التقدم العربي وتخريب طلائعه البعثية واليسارية، وصار نظام مثل النظام السعودي نظاما تقدميا يعتمد عليه لمجرد معاداته للإخوان المسلمين.

لقد خسر الإسلاميون السلطة، وعادوا إلى السجون والمنافي في مصر، وصدرت ضدهم أحكام بالإعدام لا أملك حصرها هنا.

واحتال الإسلاميون في تونس لإنقاذ جلودهم من مصير مماثل عبر منفذ وحيد متاح لهم، وهو التحالف مع عدوهم وتبرير حكمه، وهم الآن يتذيلون للنظام القديم وفي رؤوسهم مجزرة التسعينات التي ذهبت بريحهم لربع قرن كامل نتيجة تحالف اليسار التونسي مع نظام بن علي وتجفيف منابعهم.

وكان الأمر في طريقه إلى التجسد من جديد في تحالف قطع الطريق انتخابيا على الإسلاميين في خريف 2014، لكن النتيجة (التصويت الشعبي) جاءت بخلاف ما انتظر اليسار الذي وجد نفسه بلا حليف، بل مقصى من لعبة التحالفات ومركونا في معارضة غير منتجة.

السؤال الحرام الذي لا يطرحه اليسار

ماذا لو تحالف اليسار العربي بشقيه القومي واليساري مع الإسلاميين ضد النظام القديم على قاعدة برنامج  محدد هو استئصال هذا النظام ثم التفرغ للتنافس السياسي على قاعدة الديمقراطية؟

لقد كانت هناك سوابق سياسية منتجة في مصر كما في تونس، أدت إلى تهرئة النظام القديم، وهز أسسه قبل الربيع العربي، وبينت أن الحوار على قاعدة تصفية النظام والبناء الديمقراطي ممكن، وأن التحالف منتج، ولو نسبيا، وكان يمكن البناء على القليل المنتج عوض التمسك بالكثير المجدب للفعل السياسي التغييري في العمق.

لكن هذا السؤال يحتمل مشقة مراجعة الأطروحات يشكل جذري، والعمل على بناء أفق تفكير ديمقراطي تحرري لا نرى اليسار الغربي قادرا عليه، ولذلك فإنه ينتهي إلى الانحياز ضد الديمقراطية، معتقدا أنه ينظف الساحة من الرجعية، لكنه يرتكن إلى أشد صور الإقصاء السياسي بشاعة، ويعيق نفسه عن التحرر من نفسه، في نفس الوقت الذي يتقن فيه الإسلاميون المناورة مع الداخل والخارج. قد لا يصلون إلى ترسيخ أطروحاتهم القديمة، بل ربما انحازوا ضدها مؤقتا، لكنهم فيما يبدو قد نجوا من موقع العشبة الضارة، ومستقبلهم يبدو واعدا بنقد ذاتي ينتج تموقعا مختلفا في سياق تغيير عميق، بينما ينتهي اليسار العربي في ركن قصي ينتج مناحات كئيبة. موقع إعاقة الديمقراطية لا تطويرها. منطق إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر. منطق نتيجته وطن عربي بلا يسار عربي.