معضلة الدبلوماسية المغربية

وسط دهشة واستغراب الجميع، خرج علينا المغرب الرسمي بموقفين مثيرين خلفا ضجة واسعة داخل المغرب وخارجه.

الأول تكفلت بتصريفه وسائل الإعلام التابعة له التي افتتحت مطلع هذه السنة، ودون مقدمات، بهجوم شديد على النظام المصري وصل حد تبني مواقف أشرس خصومه وإحداث الخارجية المغربية ما يشبه الانقلاب على مواقفها السابقة، رغم أنها كانت سباقة إلى مباركة كل خطوات المؤسسة العسكرية المصرية الأخيرة.

والموقف الثاني هو إعلان وزير الخارجية المغربية رفضه الحضور لمسيرة باريس العدوانية والمستفزة لمشاعر المسلمين عقب أحداث "شارلي إيبدو" مكتفيا بالتعزية الرسمية للرئيس الفرنسي عكس عدد كبير من السياسيين العرب الذين آثروا تمثيل دولهم في العاصمة الفرنسية على أرفع مستوى، ليبدو بمظهر المتفرد بين جل محيطه وخلافا لماضيه هو نفسه حتى تصور البعض أن النظام المغربي قد أحدث قطيعة مع توجهاته الخارجية السابقة.

  هذان الموقفان حظيا بإشعاع كبير، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وهو ما جعل النظام المغربي يتناغم مع المزاج الشعبي العربي والإسلامي ربما لأول مرة في تاريخ الدبلوماسية المغربية، ليتصدر المشهد الإعلامي ومواقع التواصل الاجتماعي لأيام، الشيء الذي أثار الحيرة لدى المراقبين المؤيدين منهم والمعارضين على حد سواء، محاولين فهم هذا التحول المفاجئ في السياسة الخارجية للبلاد والبحث عن أسبابه، غير أن هذه الفترة لم تدم طويلا حتى بدأت بوادر التهدئة بين الطرفين المصري والمغربي تظهر لينتهي هذا التشنج العابر باستقبال الملك لوزير الخارجية المصري واستعادة المغرب لمواقفه السابقة. 

لم تتغير السياسة الخارجية المغربية إذن، فقد ظلت وفية لنسقها الذي سارت عليه منذ عقود، حيث اعتاد المخزن كلما أحس بالضيق، وبضرورة تصريف أزماته الداخلية للخارج، أو إذا ما تعرض لاستفزاز معين من دول الجوار، أو فرض عليه وكلاؤه أن يخوض حروبا نيابة عنهم، أن يلجأ لإشعال معارك سياسية مع الخارج، دون أن يملك طول النفس أو الجرأة الكافية للمضي فيها بعيدا وإتباعها بأشكال تصعيدية، مكتفيا بتحريك آلته الإعلامية على رداءتها وبؤس خطابها، ثم بعد كل الصراخ والعويل الذي يصدر منها يتراجع النظام المغربي ويتبخر كل ذلك الضجيج الذي خلقه، كأن شيئا لم يكن، مراهنا على النسيان. 

  ليس في الأمر أي تحامل أو إجحاف بحق الدبلوماسية المغربية، فهذا دأبه مع الجارين الجزائري والإسباني، فكم من مرة اشتبك مع أحدهما، ثم عاد يبحث عن مخرج للأزمات التي يوقع نفسه دون أن يحقق أي مكسب لصالحه متجرعا كأس الإهانات مرات ومرات. وهو ما حدث أيضا مع إيران حين تم توريطه بقطع العلاقات معها لمدة استمرت سنوات ثم اضطر لإعادة العلاقات في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة تغولا إيرانيا غير مسبوق أي أن أسباب قطع العلاقات معها اليوم أكثر موضوعية من السابق. 

الجديد حاليا وهو ما أثار كل هذا اللغط الذي وصل صداه للخارج أن الاشتباك التقليدي كان يتم فيما مضى مع دول الود بينها وبين المغرب مقطوع وأسباب الاختلاف معها مفهومة، لكن تطور الأحداث في المنطقة أفرز علاقات متوترة أو فاترة مع دول محسوبة تاريخيا على أنها صديقة، مما يجعلنا نبحث عن تفسيرات للتطور المثير في العلاقات مع دول كفرنسا المستعمر السابق أو بالنسبة للإشكال الحديث مع مصر.

  الواقع أن الخارجية المغربية وصلت لنفق مسدود وعجزت عن استيعاب المتغيرات الهائلة في المنطقة ومتطلبات المرحلة المعقدة، وذلك بسبب المنطلقات المختلة التي بنت عليها سياساتها ومواقفها  بالاعتماد على مغازلة الدول ذات النفوذ والاصطفاف التام معها دون اجتهاد بل ودون اعتبار لمنطق القوة الذاتية وأوراق الضغط وفن المناورة مفترضة أن حسن النوايا تجاه الكبار والتذلل نحوهم كفيل وحده بتحقيق مصالح النظام المغربي. وهكذا أثبتت السنون المتعاقبة بطلان هذا التصور وسذاجته، فقد فقد المغرب هيبته، وأدى ذلك إلى احتقار مسؤوليه وإهانتهم المتكررة حتى من طرف الحلفاء فما بالك بالخصوم للدرجة التي رأيناها في تعامل عدد من القوى العالمية والإقليمية مع المغرب، إذ ما الذي يجعلهم يكلفون أنفسهم مراعاة بلد ووضعه في الحساب وهو فاقد لأي وزن أو قيمة ولا يملك أي تأثير في المشهد الدولي أو الإقليمي.

  في السابق كان الأمر أكثر وضوحا والاصطفاف محسوم زمن الحرب الباردة، فلم يكن من الصعب على المخزن أن يتخذ القرار بالولاء للمعسكر الغربي منسجما مع طبيعته وارتباطه التاريخي به، وظل الحال على ما هو عليه بل وترسخ مع سقوط المعسكر الشرقي ولم يكن أمام المخزن في هذه المرحلة من عقبة سوى محاولة التوفيق بين النفوذ الفرانكفوني والأمريكي في المغرب والحرص على علاقات جيدة مع الطرفين. كما انفتح النظام على المكون الخليجي مبكرا، لكن الهبات والعطايا حولت المغرب العريق إلى  خاتم بين أيدي أمراء البترول بلده مستباحة وسياسته الخارجية كذلك، وبالنسبة لباقي الدول العربية والقارة الإفريقية وأمريكا اللاتينية وآسيا فقد كانوا خارج اهتمامات المسؤولين ما دامت كل الأوراق في نظرهم بيد أمريكا وفرنسا و"إسرائيل" وأموال البترودولار أيضا. أما ما يقال عن النفوذ في القارة السمراء فهو ضحك على الذقون، فالحضور المغربي لا يتجاوز الرقعة الفرنكفونية أي أنه يرعى مصالح المستعمر ويخوض الحروب نيابة عنه، وإن كان من رصيد تاريخي لديه في تلك المنطقة فهو لخدمة "ماما فرنسا" أو لمشاريع اقتصادية افتراسية، ولم يخدم ذلك يوما قضايا المغرب الحقيقية. ومما زاد في أزمة المغرب الرسمي أن التوازنات الدولية التي استند إليها تغيرت مع بروز قوى صاعدة لم تكن تربط المغرب بها أية علاقات.

  ربما يتهمنا البعض بأننا سوداويون ومتحاملون على الخارجية المغربية التي خرجت هذه المرة منتصرة على الجانب المصري حسب اعتقادهم مستندين إلى تهدئة الإعلام المصري والتي تبعتها زيارة وزير خارجية مصر للمغرب، غير أن حقيقة الأمر هي عكس ذلك حيث أن ما حدث لا يعدو كونه كلام مجاملات وتطييب للخواطر ليس إلا ولا قيمة له من الناحية العملية، فإذا ما تم اعتبار قرب النظام المصري من نظيره الجزائري استفزازا للمغرب فالعلاقة المصرية الجزائرية ما زالت على حالها، وما أثير عن الصحراء المغربية وخوف المخزن من استعداد النظام المصري للاعتراف بالبوليزاريو فإننا لا نجد بخصوصه أية مؤشرات جدية اللهم إلا كونه اجتهادات وتأويلات إعلامية، ولو حسم العسكر المصري حقيقة موقفه منها لما اكتست حملة المخزن الأخيرة عليه أية خطورة وما كانت لتدفعه كل خطوات المغرب الرسمي على التراجع مع ما نعرفه من واقع الدبلوماسية المغربية البائس، وإذا ما اعتبر التصعيد العنيف ردا على وقاحة الإعلام المصري ونيله من المغرب بشعبه ومخزنه فهذا قد يكون صحيحا لكنه حجة على المغرب ودليل ضعف وليس قوة، فالأصل ألا يحتاج كل هذه الضجة لوقف تلك الحرب الإعلامية عليه.

  كما أن طريقة التعاطي مع المشكلة المصرية أظهرت  بشكل مفضوح عيوب السياسة الخارجية المغربية، فكيف يتقلب النظام من الموقف إلى نقيضه في أيام ثم يعود إلى موقفه الأصلي الأول ضاربا بعرض الحائط كل الأعراف الدبلوماسية لا سيما أن المواقف المبدئية لا تحتمل هذا التقلب الحاد السريع، فما هكذا تصرف المواقف. صحيح أن المصالح تقتضي المناورة غير أن الأمر لا يتم بتلك الصورة،  فالمناورة لها ضوابط وقواعد، وإن لزم التغيير فذلك لا يتم بين ليلة وضحاها خصوصا ألا أحد يضمن عدم نشوب أزمات مستقبلية مع الجانب المصري.

 هذا التخبط والعشوائية في تدبير الملفات الخارجية يثبت افتقاد المغرب لتصور واضح  وارتهانه لمزاجية المسؤولين وانفعالهم، وهو ما عبر عنه الموقف من مصر، فلا شك أن المخزن قد صدمه الجفاء المصري واللامبالاة تجاهه رغم التودد المبالغ فيه والخطوات المجانية التي اتخذها النظام المغربي دعما لعسكر مصر دون أن يربح شيئا حتى لو كان معنويا. 

  الواقعة المصرية ليست استثناء، فجل الغضبات المخزنية على الخارج كانت دفاعا عن رموز النظام وتتجاهل المغرب الوطن المستباح أبناؤه حتى أضحوا الأرخص على امتداد العالم. 

  الحقيقة أن عجز البعض، حتى لو كانوا من أنصار النظام، عن فهم كيفية  تسيير دفة الدبلوماسية المغربية، وبعد ألا تسعفهم الوقائع لفهم منطق القائمين عليها، يجعلهم يضربون أخماسا في أسداس ثم يعلقون مواقف المخزن الغريبة على تقارير مخابراتية مستعينين بافتراضات من وحي خيالهم، غير أن ما يفوتهم أن خارجية أية دولة لا تدار بالسرية وأن تقارير أية جهة مهما كانت سرية لا يمكن لها أن تطغى على الوضوح الذي هو الأصل.  

  جدير بالذكر أنه لا فرق هنا بين عهد قديم وآخر جديد كما يروج الكثيرون، فالمقاربة هي ذاتها في التعاطي مع الخارج، بل نحن نرث ملفات ثقيلة من العهد السابق كملف الصحراء المغربية وسبتة ومليلية وغيرهما وما زلنا ندفع ثمن أخطائه إلى اللحظة. هذا مع أننا نسلم  بكفاءة السياسيين القدامى مقارنة بمن يسير الخارجية المغربية اليوم، لكن كفاءة هؤلاء لم تتجاوز الاستعراض الكلامي الأجوف مع حب الظهور أمام الكاميرات بخلاف مسؤولي العهد الجديد المصابين بالفوبيا من اللقاءات بالزعامات الخارجية أو من التحدث أمام وسائل الإعلام. غير أن النتيجة واحدة هي الإخفاق ولا شيء غير الإخفاق.

إن جوهر أزمة النظام المغربي أنه أسقط  قيمة الكرامة من حساباته فانعكس ذلك على صورته الخارجية، فكما أهان مواطنيه فقد هان هو على العالم، لأنه كما تدين تدان.