بدأ هذا المقال مترحما على أرواح أربعة من شباب أمن
تونس قتلوا في عملية إرهابية جدت الأسبوع الماضي، كما آسف لأحداث مؤلمة شهدتها بلادي في صدام بين مواطني قرية ذهيبة الحدودية وبين قوات الأمن، ذهب ضحيتها شاب في العشرين من عمره الغض اسمه صابر المليان وجرح فيها شباب عديدون ومرت العدوى إلى محافظات حدودية هي بن قردان وطاطاوين ثم خرج شباب متظاهر في العديد من المدن المهمشة، مطالبين بالتشغيل لهم وبالتنمية لجهاتهم والسبب الظاهر الأساسي هو منع مواطني هذه الحدود من التعامل التجاري التقليدي القديم مع الجارة ليبيا والناس هناك من الجانبين ينتمون إلى نفس القبائل ويشتركون في نفس المصير.
أما السبب الخفي والحقيقي، فهو استمرار العمل بنفس
القوانين الظالمة عوض ما وعدني به أحد المرشحين للرئاسة سليم
الرياحي من بعث مناطق التجارة الحرة على طول الشرائط الحدودية تعمل في نطاق القانون وتبادل المنافع وتقاسم الربح، وحزبه اليوم مشارك في الحكومة وفي مجلس النواب، وأملي أن أرى هذا الحزب، وهو أقرب الأحزاب إلى قلبي، يعمل على تجسيد هذه المبادئ في الحدود مثلما فعلته فرنسا منذ قرن مع جارتها الإسبانية في إمارة (أندور) الجبلية الحدودية.
والواقع أن الحكومات المتعاقبة تمسكت بقوانين مومياء تضر بالناس وباقتصاد البلاد واليوم تعالجها الحكومة بالرصاص! هذا هو القانون الأول الذي لابد من تغييره كما يتغير أي منكر. وفي سجل مشابه أتاحت لي معايشتي لمشاكل بلادي على مدى طويل أن أكتشف خفايا الداء وأسباب العلة لما تحملته تونس من مصائب الاستبداد والفساد وانخرام توازن المجتمع، ولاحظت متفائلا أن الربيع العربي جعل هذه المشاكل تطفو على السطح وحرر الألسن من الخوف وتابعت المتدخلين على القنوات التلفزيونية أو أصحاب الأحزاب يشيرون إلى بعض المعوقات التي تعطل مسيرة بلادنا وتهدد أمنها الاجتماعي والاقتصادي وتشوه هويتها الأصيلة، لكن قليلا من هؤلاء في تقييمي المتواضع اهتدى إلى أصل المعوقات، فكان طرحهم في أغلبه عرضا أمينا لانحرافات خطيرة، لكن بدون كشف الأسباب، لأنها أصبحت من المسكوت عنها جهلا أو خوفا وأنا من منطلق اجتهادي ومروري بتجارب مريرة تبين لي أن من أسباب أغلب المعضلات التونسية استمرار العمل بنصوص قانونية ترجع إلى بداية عهد الاستقلال وضعها الزعيم بورقيبة عن حسن نية وطنية لتونس الخمسينيات والستينيات، وكنت أنا أحد أعضاء حزب بورقيبة مدافعا عن بعض خياراته الموفقة، لكن هذه القوانين تحولت إلى أصنام اللات والعزى نطوف حولها بالمباخر خوفا من تغيير المنكر، لأن للمنكر أنصارا ومستفيدين، ولكني مع الزمن في الثمانينيات بدأت أدرك أن القوانين كائنات حية تتطور وتتغير حسب تطور المجتمع وتغير المشاكل، بل إن سنة الحياة وانتقال بلادنا خلال ستين عاما من جيل الاستقلال إلى جيل بناء الدولة ثم إلى جيل أبنائنا وأحفادنا الذين هم تونس اليوم وكان من المفروض أن تدفع النخبة التونسية لإعادة النظر في هذه القوانين منتهية الصلاحية وتعديلها وجعلها تتلاءم مع مجتمع جديد نشأ في بلاد تطورت وتبدلت ولم يعد من المنطقي أن نحمل أبناءنا تبعات قوانين تعود إلى عصر أجدادهم في القرن الماضي وأحيانا إلى عهد الاستعمار فشبابنا يواجه مشاكل مختلفة، مما يتطلب قوانين مختلفة تعتبر بأخطاء النصوص الأصلية وتعجل بإصلاحها حسب ما نكتشفه فيها من الانعكاسات السيئة التي ظهرت وتأكدنا منها، فكل قانون كما يقول عالم القانون الفرنسي (كازامايور) أشبه بالدواء، لأن الدواء يحضر في المختبر لعلاج مرض ما في الجسم، والقانون يوضع في مجلس تشريعي ليعالج خللا ما في مجتمع، وكل من الدواء والقانون يجرب تطبيقهما في حياة الناس اليومية المعقدة، وبالنسبة للدواء تكون لجنة الأطباء والصيادلة بالمرصاد على مدى خمسة أعوام لتتأكد من أن ليست للدواء مضاعفات خطيرة تهدد حياة الإنسان تفوق مزايا طاقته العلاجية، وإذا ثبت أن للدواء هذه المضاعفات السلبية، إما تعدل تركيبته أو يسحب تماما من الصيدليات، كما يقع سنويا العديد من المرات.
ويقول (كازامايور): إن القانون له نفس المسار ويخضع لذات المنطق، فإذا ثبت للنخب الحاكمة أن ضرره أصبح أكبر من نفعه، إما تعدل بنوده أو يسحب من الترسانة القضائية تماما ليعاد التفكير فيه وتعاد صياغته في شكل جديد وبغايات جديدة تتلاءم مع تطور سريع للمجتمع، وهي سنة الحياة وهو ما يسميه (كازامايور) فلسفة القانون وينعته علماء الإسلام بفقه القانون وفقه المقاصد.
والقانون الثاني الأخطر هو الذي يسمى بمجلة الأحوال الشخصية التي سنت في 13 آب/ أغسطس 1956 وكان الزعيم بورقيبة ينوي بها حماية الأسرة، لكن الزمن الطويل أثبت أن لها انعكاسات خطيرة بعد ستين عاما، فالمحاكم والسادة القضاة لم يعودوا قادرين على البت في قضايا معقدة في زمن معقول لقلة الإمكانات والقضاة وتراكم مئات الآلاف من ملفات الطلاق، وحدث أن آلاف العائلات انفجرت وأن مئات الآلاف من الأطفال تشتتوا وأن الأسرة التونسية لم تعد تعتمد على المودة والرحمة، بل على القاضي والمحامي، وهذه الإحصاءات من الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري تنبئكم بالمفاجآت واسألوا المتقاضين في قضايا الطلاق يقولوا لكم إن معدل القضية تدوم سنوات لأسباب إجرائية والمطلوب ليس إلا دراسة التعديلات الضرورية من قبل علماء اجتماع وقانون ودين لينظروا في الإصلاحات المطلوبة حتى لا نضطر كل أسبوع للتفرج على كوارث برنامج (عندي ما نقول لك) ونحن نردد: مجلة الأحوال الشخصية خط أحمر!
أما القانون الثالث الذي يتطلب إعادة نظر عميقة، فهو المتعلق بأملاك الدولة أو ما كنا نسميه بالأراضي الاشتراكية وهي وضعيات مؤسفة ورثتها الدولة عن زمن الاستعمار، وكان قانون تأميم الأراضي الزراعية 12 مايو 1964 إشارة انطلاق لتملك الدولة لمساحات شاسعة من الأراضي ذهب بعضها ظلما وجورا للمقربين من الرئيسين بورقيبة وبن علي وتم إهمال البقية وحرم منها شباب من أبناء الفلاحين كان الأجدر أن يحيوها ويزرعوها واليوم أصبحت أغلب هذه الأراضي بورا وحرمنا منها شبابا في أشد الحاجة إلى إحيائها وغراستها وهذا القانون مستمر، لأن بعض "المتمعشين" منه يمنعون كل إصلاح، بل إن كل حكومة تنتصب حتى ما بعد الثورة تنشئ وزارة لأملاك الدولة والأصح والأفضل أن تنشئ وزارة لتوزيع أملاك الدولة أو للتفويت في أملاك الدولة... ونحن ننتظر نواب المجلس الجدد ليقوموا بهذا العمل الصالح عوض إضاعة الوقت في القضايا المغلوطة وإهدار الوقت ومال الشعب في ملف تعيين نائب منهم رئيسا للجنة المالية!
القانون الرابع الكارثي هو ما يسمى (الإف سي إر) أي إجراءات توريد السيارات من الخارج، وهو ميدان تخصص له إدارة الديوانة تقريبا ثلث أعوانها وضباطها، فإذا أراد نوابنا ووزراء الحكومة الجديدة التأكد من المهزلة فليبدأوا بزيارة ميناء رادس والاطلاع على الفوضى العارمة وعلى الضباط المساكين، يفتشون بمنظار مكبر في جوازات السفر لتدوين تواريخ المغادرة والدخول، وهي علامات شبه ممسوحة على صفحات الجوازات ثم بعد ذلك في شارع المنصف باي، ومطالبة المواطن المضطهد العائد من الخارج بعشرات الوثائق والإثباتات والطوابع الجبائية، وأنا متأكد أن ما يدخل إلى ميزانية الدولة من مبالغ لا تساوي رواتب الديوانيين المسخرين لهذه المسرحية والنتيجة آلاف السيارات تموت منذ سنوات في مخازن الميناء وامتلاء الطرقات بالسيارات القديمة وتعرض الآلاف من التوانسة لحوادث المرور القاتلة بسبب تقادم السيارات، وكان من الأفضل منذ عقود أن تطلب الدولة من كل مواطن مقيم بالخارج يعود بسيارته مبلغا ماليا يزود خزينة الدولة، مثلا من 5 إلى 10 آلاف دينار لكل من يستورد سيارة، لا الوقوف مجمدين عند قانون سيارة واحدة لكل أسرة في العمر الكامل!! إنه عين العبث وعين التشبث الأعمى
بقوانين عمرها نصف قرن، الله أعلم بمن وراء تأبيدها.
وهنا أيضا طمأنني سليم الرياحي والعديد من الوزراء والنواب بأنهم واعون بهذا المنكر وسيغيرونه حالما يتحملون المسؤولية. هذه إصلاحات استعجالية لا تنتظر، فعسى الله أن يوفقنا في إنجازها قبل أن تتحول إلى قنابل اجتماعية موقوتة.
(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)