الحدث في
تونس اليوم هو تظاهر تلاميذ المدارس الثانوية من أجل حقهم في الامتحان وفي التحصيل العلمي، في حين تتشبث النقابات التعليمية بابتزاز التلاميذ والأولياء عبر مقايضة الامتحانات بمطالب مادية من قبيل المنح والزيادة في الرواتب وغيرها من الامتيازات الأخرى.
الحدث فريد من نوعه في جرأة موظف الدولة على الدولة ذاتها، وعلى المؤسسات، لأنها المرة الأولى التي تتجاوز فيها المطالب الاجتماعية لموظفي وزارة التربية ونقابييها التهديد بالإضراب، وتصل إلى حد الانتقام من التلاميذ أنفسهم، ومن العملية التعليمية برمتها.
لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الطلائعي للنقابات
العمالية التونسية في مختلف المعارك التي خاضتها تونس ضد الاستعمار الفرنسي، وحجم التضحيات التي دفعتها من أجل التعريف بالقضية التونسية، وبعدالة المقاومة ضد الاستعمار. كما قدمت المنظمة النقابية خيرة قياداتها شهداء من أجل حق الأمة في التحرر والانعتاق، وفي مقدمتهم الشهيد الرمز فرحات حشاد زمن الاستعمار أو خلال مقارعة المنظمة لوكلاء الاستعمار زمن حكم الوكيل الأول الحبيب بورقيبة أو الوكيل الثاني زين العابدين بن علي.
لكن التطور الخطير الذي طرأ على أداء المنظمة الشغيلة كان خلال حقبة الوكيل الثاني بن علي، الذي نجح في تركيع اتحاد حشاد وشراء أغلب القيادات النقابية الفاسدة، وتحويل المنظمة إلى جزء من منظومة الاستبداد، وقمع الطبقة الشغيلة، وظهر الشرخ واضحا بين القيادات النقابية المتعفنة وبين القواعد النقابية المناضلة.
هذا الدور الذي لعبته القيادات النقابية ظهر جليا خلال ثورة الحرية الكرامة ثورة 17 ديسمبر2010 في الريف التونسي الفقير، عندما تمكنت القواعد النقابية في المكاتب الجهوية والمحلية من الانفصال عن المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، وقيادة عدد هام من التحركات الاجتماعية التي ساهمت بشكل كبير في نجاح ثورة تونس. ففي الوقت ذاته، وعندما كان بوليس بن علي والغا في دماء شهداء تالة والقصرين وبوزيد والرقاب وبوزيان، كان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل يلقي خطابا في إطراء الدكتاتور، وفي وقوف الاتحاد إلى جانبه أمام زحف الجماهير الهادر.
أما بعد هروب بن علي فقد شكلت قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل جزءا أساسيا من الثورة المضادة، وساهمت بشكل كبير في إضرام الحرائق الاجتماعية بشكل عميق، عبر آلاف الاعتصامات والإضرابات التي أصابت الدولة بالشلل خلال حكم الترويكا. ففي مرحلة كانت فيها البلاد والثورة في أمس حاجة إلى تفعيل قيمة العمل والانضباط الاجتماعي وسد العجز الاقتصادي الناجم عن الثورة والأحداث المتلاحقة التي تبعتها، كانت القيادات النقابية تدعو إلى إسقاط الحكومة، وإلى تنشيط المطلبية، ونشرها في مختلف القطاعات، وخاصة منها تلك التي تمس قطاعات حساسة من الاقتصاد، مثل تلك المتعلقة بالمواد الأولية التصديرية، كالفسفاط خاصة، وهي إضرابات عمقت حجم المديونية، وأرهقت قيمة العملة المحلية، ودفعت بالأسعار إلى مستويات خيالية.
اليوم، تدخل الاحتجاجات الاجتماعية منعرجا خطيرا من خلال إضرابات تمس أكثر القطاعات حيوية، وهو قطاع التربية والتعليم ـإلى جانب قطاع الصحةـ وهي عمليات لا تختلف في خطورتها على الأمن القومي عن تلك التي تقوم بها العصابات الإرهابية المسلحة والمتحصنة في الجبال والمرتفعات.
لا يقتصر "الإرهاب" والسلوك الإرهابي في تونس على التجييش الإعلامي الصادر عن منصات "إعلام العار"، كما يسميه التونسيون، بل يتجاوزه في خطورته على المجتمع والدولة إلى كل الهياكل الوطنية التي تحولت إلى أوكار تشتغل بالوكالة لصالح لوبيات وأحزاب سياسية، تشكل أغلبها القاعدة العريضة للثورة المضادة المغلفة بالثورية وبالأيديولوجيا السياسية.
لكن أن يصل تدمير مؤسسات الدولة عن طريق الاعتصامات والإضرابات التي تعد بالآلاف إلى مرحلة المتاجرة بمستقبل أجيال بأكملها، فمؤشر خطير على تحول الأدوار التي تلعبها المنظمات الاجتماعية من أدوار بناء وتنظيم للمجتمع والدولة إلى أدوار تخريبية أقرب إلى الأعمال الإرهابية، وإلى التدمير الممنهج لمستقبل الأجيال. فالمنظومة التعليمية في تونس، كما هو الحال في أغلب دول المنطقة العربية، تعرضت خلال العقود الفارطة إلى تدمير ممنهج طال المناهج التعليمية وطرق التدريس ومحتويات البرامج، وكذلك الخطط التعليمية العامة المحددة لمرتكزات العملية التربوية والتعليمية بشكل عام. وليس الانتشار الكبير للتعليم الخاص على حساب المدرسة العمومية إلا انتصارا لسطوة المال، ومؤشرا على غياب الدولة، بل وتواطئها في جعل العملية التعليمية نشاطا منبتا عن هوية الأمة، وعن مرتكزات هذه الهوية.
رغم أن عملية تشخيص الأسباب الكامنة وراء انهيار النسق التعليمي في المنطقة العربية تبدو أولوية الأولويات، فإن كل الملاحظين يكادون يجمعون على أن الإبقاء على الوضع الراهن لنظام التعليم العربي ليس غير عملية انتحار بطيء لأمة بكاملها. وليست متاجرة المنظمات الاجتماعية كالاتحاد العام التونسي للشغل بمستقبل أبناء تونس إلا مؤشرا خطيرا على المنعرجات الدقيقة التي يمكن أن تنزلق إليها المطلبية الاجتماعية، وهو ما يدفع حقيقة إلى مراجعة الأدوار والوظائف الحقيقية لهذه المنظمات.
فهل جاءت فعلا للدفع عن حقوق العمال، أم لتوظيف حقوق العمال من أجل مساومة السلطة القائمة والعمل بالوكالة لقوى أجنبية، والسعي إلى تحقيق مكاسب مادية بعيدة كل البعد عن الشعارات التي من أجلها أنشئت هذه المنظمات.