للإنسان نزعة فطرية تدفعه نحو الانتماء للجماعات المختلفة ليغطي احتياجاته النفسية من الرفقة والشعور بالأمان ونيل مكانة اجتماعية وغير ذلك، والإسلام -كونه دين الفطرة- لا يلغي هذه النزعة الإنسانية التي ينتج عنها بالضرورة التنوع والاختلاف، وإنما عمل على شرح طبيعتها (من خلال الوحي) ثم توظيفها وترشيدها في ما ينفع الدين والدنيا.
يظهر الإشكال عندما يرفع الإنسان قيمة الولاء للجماعة فوق قيمة الولاء للأمة، أو بمعنى آخر: عندما يحلّ الدين في أيدولوجيا/فكر هذه الجماعة؛ فتعتقد هذه الجماعة أنها هي ممثلة الحق وحدها، ومن ثمّ يبدأ الإنسان في تنزيل خصائص دين الحق على جماعته هذه، ويتعامل سيكولوجياً مع جماعته بكونها الحق المطلق حتى وإن لم يصرح بذلك، كيف ؟!
سنحاول أن ننظر إلى مختلف التنظيمات الإسلامية من منظور
إيرفين جانيس الذي وضحه في كتابه (التفكير الجماعي)، يقول جانيس إن حالة الولاء العصبية للجماعة –أياً ما كانت الجماعة- تضيف إليها لوناً من القداسة تدفع أفرادها إلى تجاوز التقييم الواقعي لأفعال الجماعة وأفكارها، ويتجلى ذلك في مجموعة من الأعراض، منها التوهم بأن للجماعة نوعاً من أنواع الحصانة التي تتسبب في شيوع حالة مفرطة من التفاؤل داخل الجماعة، مما يستحيل معها الاعتراف بالفشل إذا وقع.
يضيف جانيس أن هناك اعتقاداً راسخاً يسود لدى أفراد الجماعة، بأن الخيارات التي تتبناها هذه الجماعة هي الحق مهما كانت آلية اتخاذ القرار فيها، ويساهم ذلك في مبالغة التقدير في قيادات الجماعة على كل مستوياتها، فيتم تهميش أية محاولة لنقد خيارات الجماعة بل يعمل أفرادها على تعظيم تلك الخيارات لا لشيء إلا لأنها (صدرت من الجماعة).
هذه الحالة الدفاعية الدوجمائية ينتج عنها شيئان: الأول هو قيام أفراد الجماعة بالتبرير المستمر لاختيارات الجماعة حتى لو كانت تلك الاختيارات منافية لأفكارها، أو حتى منافية للدين (المرجعية النهائية المفترضة للجماعة من الأساس)، والثاني أن الجماعة تضع حدوداً فاصلة بينها وبين الجماعات الأخرى حتى تلك التي تشترك معها في الانتماء العقدي والمنهجي، ومن ثمّ تنظر الجماعة إلى الجماعات الأخرى كأعداء يسعون إلى هدم "مشروع" الجماعة.
والملاحظ أنه عندما تتعرض الجماعة لخطر مشترك، يزداد أفراد الجماعة انغلاقاً على أنفسهم، أما في حالة الأمان وغياب التهديد، فتضطر الجماعة بشكل سيكولوجي إلى اختراع أعداء "وهميين" حتى تدوم حالة الانتماء للجماعة، رغم أن هؤلاء الأعداء ربما يكونون في الحقيقة مسالمين أو حتى حلفاء، ولكن الحاجة إلى عدو تغلب على الجماعة، فتقوم باجتزاء الحقيقة وربما تلفيقها لإشباع هذه الحاجة.
بعد هذه السطور البسيطة أترك للقارئ المجال لإسقاط هذه الأفكار على مختلف التنظيمات الإسلامية في أمتنا، ولا أعتقد أنه سيلاقي صعوبة كبيرة في ذلك، فحالة التمزق والتشرذم والتعصب المريض للتنظيمات من أشرّ أدواء الأمة التي لا تخفى على أحد، ولعل في تحرير جيش الفتح لإدلب على يد ثلاثة فصائل مجاهدة، أنموذجاً طيباً لما يمكن تحقيقه لعلاج هذا المرض.
*فكرة المقال مستوحاة من كتاب (أصحاب الحق) لكاتبه أ. علي عبد الرحيم أبو مريم.