حين يستيقظ المصريون ذات صباح فيفاجؤون بأن قرارا صدر بتخفيض سعر
الجنيه المصري، وقبلأن تتوازن السوق للتكيف مع الوضع المستجد، يعاجلهم البنك المركزي بتخفيض آخر في سعر الجنيه، ولما تمضي أيام ثلاثة على التخفيض الأول. ماذا تكون الرسالة الموجهة إلى الرأي العالم في هذه الحالة؟
أتحدث عن التخفيض الذي حدث صبيحة يوم الخميس 2 يوليو الحالي، وذلك الذي تم يوم الأحد 5 يوليو، وبمقتضاهما تم تخفيض الجنيه المصري عشرة قروش في كل مرة، الأمر الذي أضاف إلى سعر الدولار عشرين قرشا، ووصل في البنوك إلى 7.83 جنيه. وهو ما أشاع حالة من الترقب والقلق، عبَر عن جانب منه العنوان الرئيسي لصحيفة "الشروق" أمس (8/7) الذي نسب إلى مسؤول مصرفي قوله إن: سعر الدولار الرسمي يصل إلى 8 جنيهات قريبا جدا، وحين يكون ذلك التوقع خاصا بالسعر الرسمي، فإن الباب يظل مفتوحا لمزيد من الزيادات في السوق الموازية، الأمر الذي يقربنا من الإجابة على السؤال المتعلق بالتداعيات المترتبة على ذلك، التي يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:
• إطلاق موجة جديدة من ارتفاع الأسعار التي سيكتوي بنارها متوسطو الحال والفقراء (علما بأن الأولين جرى إفقارهم). وليس صحيحا أن هذه الفئات لن تضار من ارتفاع الأسعار، لأن الأغنياء والقادرين وحدهم الذين لن يتأثروا بالزيادة. وليس صحيحا أيضا أن الارتفاع سيلحق فقط بالسلع الغذائية التي يتم استيرادها والتي تمثل 60 بالمئة من مستلزمات الغذاء، لأنه سيضرب كل شيء من أسعار النقل والمواصلات إلى السلع التي تنتج محليا مرورا بأجر "المكوجي" والسباك والحلاق.
• إن القرار الاقتصادي يعاني من الارتباك وعدم الشفافية. إذ ليس مفهوما أن يخفض الجنيه في يوم ثم يخفض مرة ثانية بعد ثلاثة أيام، دون أن يفهم الرأي العام لماذا حدث ذلك، على الأقل لكي يبتلع التخفيض ويقتنع بضرورته وجدواه.
• أن كل من يتعامل مع الدولار يجب أن يؤجل قراره حتى تتضح الصورة وتستقر السوق. وسواء كان بائعا أو مشتريا أو مستوردا ومقترضا أو حتى مستثمرا، فعليه أن يجمد نشاطه، الأمر الذي يعني إصابة السوق بالشلل لبعض الوقت. يشهد بذلك هبوط الأسعار في البورصة، لأن كثيرين سارعوا إلى بيع أسهمهم بسبب عدم الثقة في الخطوات القادمة.
• يفترض أن يؤدى تخفيض سعر الجنيه إلى زيادة الصادرات إلى الخارج، لأن ما حدث يشكل عنصرا جاذبا وظرفا أفضل للمستورد الأجنبي. لكن ذلك يفترض حدوث زيادة في الإنتاج المحلي تلبي احتياجات المستوردين، وهو ما يحول دون تحقيقه تعثر القدرات الإنتاجية في القطاع الصناعي، الذي يحاول بالكاد تشغيل ألف مصنع المتوقفة عن العمل.
المشكلة الكبرى التي تواجهها مصر الآن تتمثل في شح موارد النقد الأجنبي مع استمرار الطلب عليه، سواء لتوفير احتياجات الاستهلاك المحلي والمستوردين أو لتلبية متطلبات المنتجين.
والنقص في موارد النقد الأجنبي راجع لعوامل عدة، أهمها: التوقف النسبي للسياحة، والتراجع الكبير في تصدير المنتجات المصرية. بحيث لم يتبق من الموارد المهمة سوى إيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج (يفترض أن المساعدات الخليجية مؤقتة أيا كان حجمها).
الاقتصاديون الذين تحدثت إليهم لم يختلفوا على أنه في مواجهة هذا الموقف يتعين الأخذ بعدة حلول، على رأسها التركيز على زيادة الإنتاج بكل السبل، وهو ما قد يقتضي إعادة النظر في الأولويات بحيث يصبح ذلك الهدف هو الهم الأول الذي تتراجع أمامه مشروعات أخرى، في المقدمة منها المشروعات العملاقة، التي باتت تحتل عناوين الصحف، وتستأثر بالاهتمام، خصوصا أن جدواها مثير للغط ومشكوك فيه.
وإلى جانب زيادة الإنتاج، فإن الحد من السلع الكمالية والترفيه يصبح ضرورة أخرى، ثم إن هناك عنصر جذب الاستثمارات الخارجية الذي يتعذر تحقيقه إزاء المبالغات التي يحفل بها الفضاء المصري في تناوله لمسألة الإرهاب. ذلك أن من يتابع وسائل الإعلام عندنا يتصور أن الإرهاب يضرب كل شارع وأنه لم يعد أحد آمنا من شروره. وهي أجواء طاردة للاستثمار، فضلا عن أنها تقتل السياحة وتغلق باب التعويل عليها.
من الآراء التي سمعتها من خبراء الاقتصاد أن إدارة الملف الاقتصادي تفتقد إلى الإبداع في عملية جذب المستثمرين. وهم يعتبرون أن الأجواء إذا كانت طاردة للسائح الأجنبي، إلا أوضاع الدول العربية المحيطة، احتفظت لمصر بدورها كملاذ للوافد العربي.
وفي هذه الحالة، فإن العقار في مصر يصبح موردا ينبغي العناية به، وتحويله إلى سلعة مهمة ضمن موارد النقد الأجنبي. وتنشيط هذا القطاع يتطلب اتخاذ بعض الخطوات البسيطة والذكية التي تشجع المواطن العربي في الاستثمار العقاري في مصر. بدءا من إغراءات الإقامة إلى تيسير إجراءات التسجيل والتحويل وغير ذلك.
ما لاحظته فيما سمعت أن خبراء الاقتصاد معزولون عن قنوات القرار والتفكير الاقتصادي، ومنهم من ينتقد غياب الشفافية في هذا القطاع. وكان تعليقي أن المشكلة أكبر من الاقتصاد وأن ثمة ثغرة في إدارة السياسة، عموما إذا عولجت، فإن ذلك سيكون له صداه في القطاع الاقتصادي. ولم يكن الهدف من ذلك هو طمأنتهم بقدر ما كان محاولة لإقناعهم بأنهم سوف ينتظرون طويلا لتحقيق مرادهم.
(نقلا عن صحيفة الشروق)