حاولت مقالتي الموسومة بـ"
الضفة وغزة: أفق تاريخي" أن تشرح تعلق المقاومة
الفلسطينية، ولا سيما في الضفة وغزة، بموازين القوى والظروف الموضوعية، منذ نشأة المقاومة من بعد النكبة الأولى في أواسط خمسينيات القرن الماضي في قطاع
غزة، فبالرغم من الجهود الذاتية المتراكمة التي بذلتها المنظمات الفلسطينية، وخاصة بعد تمركز الثورة الفلسطينية في الأردن من بعد العام 1967، فإن تلك الجهود تعرضت للتصفية التامة من طرف العدو الصهيوني، حتى كانت انتفاضة كانون في العام 1987. وبالإضافة إلى ذلك فإن قدرًا من الافتراق في طبيعة الظروف طبع السمات الخاصة لكل من الضفة وغزة منذ النكبة الأولى.
ومنذ أن ألقى الشعب الفلسطيني بثقله في الانتفاضة الشعبية الأولى، فإن أحدا لم يتوقف عند طبيعة المقاومة في كل من المنطقتين اللتين يتركز فيهما الفلسطينيون داخل فلسطين الانتدابية، كما أن أحدًا لم يتحدث عن المنطقة الأكثر فعلاً في ميدان المقاومة، ففي هذه الانتفاضة تشابه الفعل الانتفاضي إلى حد التماثل، ولم يكن لأي من المنطقتين كبير ميزة على الأخرى، وحتى وإن تميزت إحداهما بأسبقية كفاحية فإن الأخرى تتميز بغيرها وهكذا، وعمومًا فإن الذي طبع الشعور والخطاب الفلسطينيين وحدة الحال، وبأن من يقاوم هو الفلسطيني بصرف النظر عن مكانه الجغرافي داخل الوطن الواحد.
بقيت الانتفاضة الأولى مثلا دائم الاستحضار في نقاشات متعددة، أبرزها حين المقارنة بالانتفاضة الثانية أو عند نقد الحروب التي خاضتها المقاومة في قطاع غزة منذ العام 2006، لما اتصفت به الانتفاضة الأولى من شعبية وطابع مدني حتى كانت انتفاضة مجتمعية بامتياز، بيد أن الذاكرة القصيرة والارتهان لسطوة اللحظة الراهنة كثيرًا ما تغيّب الفوارق الموضوعية التي تصنع الاختلاف وتجعل محاولات الاستدعاء والاستنساخ قاصرة عن الإحاطة بالموضوع، فالانتفاضة الأولى انفجرت مباشرة في وجه العدو دون أن تصطدم بحاجز فلسطيني، واستهدفت العدو الحاضر بكثافة داخل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وهو الأمر الذي لم يعد قائمًا من بعد مجيء السلطة الفلسطينية.
انتهت الانتفاضة الأولى مع دخول السلطة الفلسطينية، التي شكّلت الحاجز أمام أي فعل نضالي شعبي أو نخبوي يستهدف الاحتلال، وخلقت هذه السلطة وقائع سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية جديدة في كل من الضفة وغزة، وتوسلت بأدوات أمنية مستدعاة من التجربة العربية لم يعتدها الفلسطينيون، وكان أثرها في قطاع غزة أكبر مما كان في الضفة، حتى أمكن القول بأن الحالة النضالية الجماهيرية قد انهارت كما انهارت فصائل المقاومة إلى حد كبير.
لم يكن من السهل تجاوز تلك الحالة، لوجود حاجز فلسطيني لا يرغب الفلسطينيون بالاصطدام به، ولارتباط أرزاقهم وأقادرهم به كما صار يبدو لهم، ولوجود الاحتلال الذي بقي على حاله من حيث استهدافه للفلسطينيين، ورغم أن هذه الحالة المزدوجة أكثر ثقلاً وحضورًا في الضفة التي كان وجود الاحتلال فيها، ولم يزل، أكثر كثافة، لأنه ببساطة لم يخرج منها ولم يتمتع أهلها بأي قدر من الحربة، بما في ذلك مناطق (أ) الصغيرة وبالغة الضيق، والتي يعني انتقال أي مقاوم، أو ناشط مدني في تنظيم مقاوم، منها لأي منطقة أخرى تعرضه للاعتقال؛ فإن أثر السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، كان أكبر.
وذلك يدعو للقول، بأن محاولات الخلاص الذاتية وحدها لم تفلح في الخروج من هذا القعر السحيق، ولكن انتهاء المدة القانونية لاتفاق أوسلو دون أن تثمر الحل الدائم الموعود، وفي ظل قيادة عرفات، مكّن الانفجار الجماهيري من التوسع، ولا نزال نذكر كيف سمحت السلطة الفلسطينية للمظاهرات في الضفة الغربية بأن تصل إلى الحواجز الصهيونية بصورة يومية، وتشتبك مع العدو الذي لم يتورع عن قتل العشرات يوميًا من العزل المتظاهرين، حتى خرجت تلك الانتفاضة عن السيطرة، وأخذت طابعًا عسكريًا متباين الشكل ما بين غزة والضفة.
أدت سياسات السلطة تلك إلى استهدافها من طرف الاحتلال، وهو ما حرر حماس وغيرها من فصائل المقاومة من قبضة السلطة، وقد كانت حماس في الضفة تتمتع بحد أدنى من الحضور مكّنها من إطلاق المظاهرات من المساجد أو من الجامعات التي كانت تسيطر عليها كلها تقريبًا، بينما تمكنت في غزة من إعادة بناء نفسها، ولكنها لم تتمكن من مواكبة الانتفاضة الشعبية بعمل عسكري إلا بعد بضعة شهور، إذ لم يكن التعافي السريع من آثار فترة أوسلو ممكنًا.
اتسمت مقاومة غزة ببناء جسم ميليشياوي واسع، ومحاولة تصنيع الصواريخ والأدوات القتالية، وتكثيف تهريب السلاح إلى داخل القطاع، مستفيدة من خلو أرضها من الاحتلال سوى المستوطنات، ومن تربتها الرملية، وقد انعكس هذا الطابع الخاص في عمليات اقتحام المستوطنات وإطلاق الصواريخ وتفجير الأبراج العسكرية وآليات الاحتلال، بينما اتسمت مقاومة الضفة بتشكيل مجموعات سرية متناثرة بسبب الطبيعة الأمنية الخاصة للضفة، وعلى النحو الذي يشبه العمل المقاوم التقليدي داخل الأرض المحتلة، كما كان تاريخيًا، حتى وإن ظهرت بعض الأشكال الميليشياوية في بعض المدن، ولا سيما المرتبطة منها بفتح، وقد انعكس ذلك في العمليات التفجيرية داخل فلسطين المحتلة عام 48، وفي عمليات الكمائن وإطلاق النار وبعض عمليات اقتحام المستوطنات وتفجير الآليات، ورغم الطابع العسكري الفذ للمقاومة في قطاع غزة فإن المقاومة المنطلقة من الضفة كانت الأكثر إثخانًا في العدو بسبب تداخلها الشديد مع كيانه.
لم يطرح أحد في تلك الفترة السؤال عن الأسباب التي تجعل المقاومة المنطلقة من الضفة أكثر إثخانًا من تلك التي في غزة، رغم ضعف إمكانيات الأولى بالنسبة إلى الثانية، ولم يُحِل أحد السبب إلى طبيعة خاصة تسم الإنسان في كل من المنطقتين، ومرد ذلك في الأساس إلى كون الانتفاضة الثانية معركة مشتركة يخوضها الجميع في الضفة وغزة كل بحسب ظروفه الخاصة وإمكاناته المتاحة. وحتمًا ولأن الظروف الخاصة مختلفة جدًا، وطريقة الاشتراك في الانتفاضة مختلفة في الأساس، فقد انتهت الانتفاضة إلى تصفية المقاومة في الضفة بعد حملة السور الواقي، وإلى تعاظم القدرات الذاتية للمقاومة في قطاع غزة، والتي ازدادت تعاظمًا بعد انسحاب العدو من مستوطناته في القطاع في العام 2005، ثم ازدادت تعاظمًا بعد الانقسام في ظل حكومة مقاومة.
ولكن السؤال عن الضفة ودورها ومكانتها وطبيعة الإنسان الذي فيها، بدأ مع التوتر الذي نشب بين كل من فتح وحماس على خلفية فوز الأخيرة في الانتخابات التشريعية في العام 2006، وتعزز هذا السؤال في أحداث الانقسام في عام 2007، وكان حمساوياً بالدرجة الأولى، يطرحه عناصر بسطاء وكوادر وساسة ومثقفون، هكذا بكل بساطة، وكأن سنة واحدة ما بين العام 2005 والعام 2006 كانت كافية لتغيير الإنسان في الضفة، والسؤال لم يقتصر على غزة، ولكن كان يتداوله أنصار حماس في الضفة فيما بينهم، وهو الأمر الذي يدل على قدرة حقائق اللحظة الراهنة على سحق الوعي الموضوعي والتاريخي للإنسان.
وتعاظم هذا السؤال مع الحروب التي خاضتها المقاومة في قطاع غزة، بما خلّفته من عدد كبير من الضحايا ودمار هائل في الممتلكات والبنى التحتية، فضلاً عن الحصار الخانق متعدد الأشكال والجوانب، حتى بات التحليل لأوضاع الضفة يتخذ طابعًا هجائيًا يحيل إلى "طبيعة الإنسان في تلك المنطقة"، دون التنبه إلى أن وضع الضفة اليوم أحسن مما كان عليه وضع غزة قبل الانتفاضة الثانية، وإلى مآلات انتفاضة الأقصى في كل من المكانيين، وإلى النتائج الأكيدة لسياسات متباينة بين حكومة مقاومة وحركات مقاومة تخوض الحروب وتنعكس بالضرورة على الشعب، وبين سلطة تتبنى سياسات مناقضة تمامًا، وهو أمر سينعكس على الشعب أيضًا، سوى استنزافه المكثف لأبناء حماس على وجه التحديد، وفضلاً عن ذلك تأتي في الأساس الظروف التاريخية الخاصة بالضفة، بالإضافة إلى تدمير بنى التنظيمات والفصائل فيها.
ويغيب عن ذلك كله، آلاف المعتقلين في السجون جراء مجرد المحاولة، وهو أمر يكفي لوحده لبيان أن المشكلة ليست في "طبيعة الإنسان" وإنما في ظروف يعجز من يعيش في أخرى مباينة عن تصورها، فلا شيء متوفر حتى يرد الأمر إلى محض الإرادة، وإلا لماذا يختار العديد من الناس اللجوء إلى الطعن أو الدهس بدلاً من استخدام أدوات أكبر أثرًا؟! ويضاف إلى ذلك أن الحروب التي خاضتها المقاومة في غزة ستَبْخَس حين المقارنة أي عمل مقاوم أصغر حجمًا، وكذلك فإن الفعاليات الشعبية شبه اليومية في عدد كبير من القرى ونقاط الاحتكاك ستبدو لا شيء حين مقارنتها بما انطبع في الذهن العربي من الاعتصامات الكبرى في ميادين الثورات العربية.