في عز الاهتمام الإعلامي بقضية اللجوء والهجرة بأوروبا، لم تجد جريدة ليبراسيون الفرنسية وقبلها عددا من وسائل الإعلام اليونانية غير الاهتمام بقصة حورية البحر التي أنقذت لاجئا سوريا من الغرق. الحورية هي عارضة الأزياء السابقة ساندرا، والغريب لا نعرف عنه غير اسمه محمد ومحاولته العبور من تركيا في اتجاه اليونان الغارقة في الأزمة الاقتصادية منذ سنوات. والقصة كما يرويها أصحابها بدأت حين كانت ساندرا وعائلاتها مستمتعة برحلة بحرية على ظهر يختها قبل أن تفاجأ بشخص يصارع أمواج البحر فتكلفت العائلة بإنقاذه دون أن تنسى التأريخ للحظة بصورة تحتضن فيها ساندرا محمدا جابت الجرائد والقنوات. هذه الصورة تلخص بالضبط ما تحاول أوروبا منذ عقود الترويج له باعتبارها أرض استقبال للهجرة واللجوء. لكن قصة ساندرا ومحمد ليست جديدة وسبق أن تابعنا المشهد بتفاصيله الصغيرة منذ عشر سنوات تقريبا. لكن المتابعة كانت على شاشة السينما لا صفحات الجرائد والبرامج التلفزيونية.
بطلا المشهد السينما كانا جوليا ، عارضة الأزياء اليونانية، والسيد أبو العربي، الشاب المصري الهارب من مصيره المظلم ببورسعيد، والعنوان كان فيلم "السيد أبو العربي وصل" المنتج في العام 2005 لمخرجه محسن أحمد. في المشهد السينمائي يطلب المهرب من المهاجرين استكمال الرحلة سباحة على بعد خمس كيلومترات من شواطئ اليونان. من حسن حظ أبو العربي أن ساقه القدر إلى يخت يستعمله يونانيون في رحلة بحرية فعلق بصنارة أحدهم لتقابله جوليا الجميلة بكلماته "حمد الله على السلامة". ومع توالي أحداث الفيلم يصول أبو العربي ويجول في أثينا بمساعدة جولياه قبل أن يعود لأرض بورسعيد ثريا ويبني قرية سياحية شهدت زواجه من حبيبته "مهجه" في حفل عرس تحولت في ساندرا إلى راقصة شعبية.
من سوء حظ محمدا أن مثل هذه الأحلام الوردية لا تتحقق إلا في السينما، ومن سوء حظه أيضا أنه وصل أوروبا في عز أزمتها حيث لم يعد فيها مكان لتحقيق الحالمين أمثاله بالأمان لا غير.
قبل أيام فقط عثرت الشرطة على شاحنة مركونة على جانب الطريق السريعة بين بودابست وفيينا وبداخلها جثث أكثر من سبعين لاجئا بينهم أربعة أطفال يرجح أنهم ماتوا اختناقا في رحلة هجرتهم السرية في اتجاه الفردوس الأوربي. كانت الشاحنة ويا للمفارقة مخصصة في الأصل لنقل اللحوم المشوية. لم يكن هؤلاء أول من دفع حياته ثمنا لمغامرة تهريب البشر التي عادت لتنتعش من جديد بالنظر إلى ما تشهده عدد من دول الشرق الأوسط والجنوب على العموم من مآسي إنسانية وحروب مدمرة.
لكن الأكيد أيضا أنهم لن يكونوا الأخيرين. أوروبا التي حاولت، كما العادة، الظهور بمظهر المدافع عن حياة الإنسان وآجميته، استنفرت أجهزتها الأمنية كما تشاور عدد من ساستها في أمر الهجرة وأبدوا تخوفهم من الأعداد "غير المسبوقة" التي صارت تعبر من ضفة المتوسط الجنوبية ومن الشرق الأوروبي، فألمانيا وحدها تنتظر تسجيل أكثر من 800 ألف طلب لجوء. أما فرنسا، بلد الحرية والأخوة والمساواة، فقد كلف رئيس الوزراء نفسه بزيارة مقاطعة كاليه حيث يتجمع المهاجرون الراغبون في المرور في اتجاه بريطانيا ليكتشف أن ظروف إقامتهم هناك غير آدمية، فقرر تعويض مخيماتهم العشوائية بمخيم بسعة ألف وخمسمائة مهاجر لا غير. ورغم كل الحديث عن حق اللجوء، لم تجد المجر من حل غير بناء سياج بطول حدودها مع صربيا منعا لتسلل المهاجرين وهي التي تعلم جيدا أن ما تقترحه خدمة مجانية للمهربين لرفع أسعارهم في وجه الراغبين في العبور.
في فيلم "حدود"، المنتج في العام 2002، لمخرجه الجزائري الفرنسي مصطفى جدجام، يلخص سيبيبي، أحد شخصيات الفيلم، الموضوع كله في جملة بليغة تعد المفتاح لفهم كل شيء. يقول سيبيبي: لقد تغيرت الأزمنة وأصبح لزاما على العباد أن يؤدوا ثمنا لتنقلاتهم. فالقضية ليست مجرد أحلام أو أوهام جماعات أو أفراد باستقرار مادي و سمو اجتماعي يتحققان عن طريق الهجرة إلى أوربا بل هي أعمق من ذاك بكثير. إنه الاستعباد الجديد المفروض على فقراء العالم الثالث و دولهم كما تمارسه دول الشمال الغنية. تبعية اقتصادية ومالية كرستها ديون بمليارات الدولارات حيث لا مجال لأدنى نهضة تنموية يتحقق معها اكتفاء ذاتي يقينا الهدر والاستنزاف المتواصل للموارد وللطاقات.
في "حدود" مصطفى جدجام نتتبع قصة ستة أفارقة قرروا الهجرة سرا إلى أوربا عبر محور أصبح معروفا لدى الجميع، ينطلق من دول جنوب الصحراء مرورا بموريتانيا فالجزائر ثم المغرب كمحطة أخيرة لرحلة محفوفة بالمخاطر أملا في الوصول إلى الفردوس المزعوم. رحلة عبر مسالك الصحراء الوعرة حيث تتلقفهم أيادي المهربين من منطقة إلى أخرى وفق معاملة حاطة من الكرامة، حولتهم إلى مجرد سلعة يسعى الجميع إلى التخلص منها بأسرع ما يمكن بحثا عن صيد آخر لا يفتأ أن يسقط في شباكهم من جديد.
لقد تحولت آما ومعها سيبيبي وجو وقاديرو وموسى وهارفي ومهاجرون كثر الى بروليتاريا جديدة تستعرض خدماتها في سوق نخاسة غير معلن. فهم بقرة حلوب للمهربين و يد عاملة رخيصة للتجار وفحولة مفتقدة للشاذين، و بين كل هؤلاء تهدر كرامتهم دون أن يفقدوا أبدا احساسهم الآدمي حينا عبر السفر بعيدا بمخيلاتهم الى الحبيبة فانيسا التي تنتظر قدوم جو في الضفة الأخرى أو الاحتماء بعلاقة حب بدأت تتشكل بين سيبيبي و آما حينا آخر ..
ولأن الموت ظل متربصا بأبطال القصة طوال أحداثها بداية من فقدانهم لهارفي المتوفى عطشا بالصحراء، فقد شكلت النهاية خاتمة لأحلامهم الشخصية بعد اعتقالهم من طرف أفراد الحرس المدني الإسباني. أما جو فقد انضاف للائحة الضحايا وهو الذي كانت فانيسا الفرنسية الجميلة في انتظاره هناك رجلا فحلا فوصلها جثة هامدة لا حياة فيها، إذ لا حوريات بحر في المتوسط كما على شواطئ اليونان.
لكن مهلا، فقد أخطأ سيبيبي حين اعتبر أن الأزمنة تغيرت فقط مع بداية الألفية، فقد سبقه إلى ذلك مهربو البشر بين الدول العربية انطلاقا من فلسطين إلى العراق ومنها إلى الكويت، الجنة الموعودة سنوات الستينيات من القرن الماضي لكل طامح في الثراء. ففي فيلم "المخدوعون"، المنتج في العام 1972، لمخرجه توفيق صالح عن رواية "رجال تحت الشمس" التي كتبها غسان كنفاني في العام 1963 "يفاصل" المهربون مع أبطال الفيلم الثلاثة أبو قيس وأسعد ومروان في خمسة وعشرة وعشرين دينارا ثمنا لرحلتهم إلى المجهول والنتيجة واحدة: الموت.
في فيلم "المخدوعون" لم يختلف مصير "الأبطال" عن بقية من ماتوا غرقا في المتوسط أو اختناقا بطرقات أوروبا بل تطابق إلى حد بعيد مع ضحايا شاحنة اللحوم المشوية بعد أن ماتوا هم في صهريج شاحنة نقل مياه. الغريب في الأمر أن المؤسسة العامة للسينما بسوريا هي من تكفلت بإنتاج الفيلم بعد أن لم يجد توفيق صالح في مصر منتجا. والحرب السورية هي من أنتجت واقع شاحنة الموت النمساوية، والمهرب كان لزاما أن يكون عربيا من لبنان كما كان المهرب في "المخدوعون" فلسطينيا ظن أن قطع جهازه التناسلي هو عنوان فقدان الرجولة ونسي أن المروءة والرجولة لا ترتبطان بالضرورة بمجرد أعضاء تناسلية.
وبالشكل الذي كان فيه فيلم "المخدوعون" وثيقة محاكمة للعدو وما ارتكبه من جرائم في حق الفلسطينيين المشردين، ودليل إدانة للخونة وللنظام الرسمي العربي، فإن جثث ضحايا الشاحنة التي توقفت رحلتها على جنبات الطريق السريع الأوربي وثيقة إدانة للنظام السوري وللتنظيمات المسلحة التي دفعت ملايين السوريين للبحث عن ملاذ آمن لم يجدوه في كثير من دول الجوار التي ضاقت بهم، واكتفى ساستها بحضور المنتديات والمؤتمرات والقمم في الفنادق المكيفة بحثا عن دور أو سلطة أو لمجرد رغبة في الانتقام.
يقول أبو قيس وهو يناجي نفسه في الفيلم: ايلي ما مات برصاص اليهود يموت بذل الإعاشة، وايلي بينفذ من هادي وهادي يموتوه الخونة والمتآمرين... قضيت عمرك تصدق كل شيء يقولو لك ياه... ليش ما بتتحرك؟ ليش ما تتولى أمورك لحالك؟
تحرك السوريون، وقبلهم بعض من شعوب المنطقة، والنتيجة واحدة: من لم يمت برصاص النظام مات برصاص التنظيمات المسلحة. ومن نفذ من هذه وهذه لم يجد في "الخونة والمتآمرين" إلا الجحود فاختار البحر والبر والسماء سبيلا للهجرة. لكن الطبيعة والجغرافيا كانت لهم بالمرصاد فتصيدهم الموت واحدا تلو الآخر، فصار الساسة والصحافيون والجمهور مجرد حفاري قبور يعدون أرقام القتلى أو يتجاهلون.
في رواية غسان كنفاني طرح السائق/ القائد السؤال: لماذا لم يدق الثلاثة على جدار الخزان كي يتم إنقاذهم؟
في الفيلم دق الثلاثة ما استطاعوا لكن العرب كانوا ملهيين بالليالي الملاح التي يقضيها أبو الخيزران، العاجز الجنسي، مع الراقصة كوكب بالعراق، فمنعهم ذلك من سماع استغاثة الإخوة الهالكين. لم يعد الأمر يحتاج اليوم للدق على الجدران فأخبار مآسي الهاربين من الحرب لا تتوقف وصورهم تملأ الشاشات موتا ودمارا بالداخل السوري وعلى طرقات أوروبا الحريات وحقوق الإنسان.