ألا يزال هناك من رصاص في الجيوب؟

في العام 1975 نشر الممثل الكوميدي لطفي لبيب روايته التي عنونها "الكتيبة 26" على اسم الكتيبة التي كان ينتمي إليها في حرب أكتوبر 1973. كانت الكتيبة 26 أول كتيبة عبرت القناة وكان يحلو للطفي لبيب، في السنوات الأخيرة، الظهور على التلفزيون للحديث عن "بطولاته" في الحرب. انتهى المطاف بالرجل إلى القول في لقاء مع مفيد فوزي أن التلفزيون المصري باعتباره مرآة للمجتمع بحاجة إلى "أن يتسرب إليه بعض العري لكسر الكبت الموجود عند الناس". هذا ما انتهت إليه "بطولات لطفي ومن معه"، فالزمن زمن عهر سياسي واجتماعي لم يبدأ اليوم ولن ينتهي غدا بكل تأكيد.

في مشهد من فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي" للمخرج حسام الدين مصطفى، المنتج سنة 1974، وفي طريق عودة المجند محمد إلى قريته بمعية ابن بلدته عزوز بعد هزيمة 1967، يدور الحوار التالي بين الاثنين:

عزوز: احكي لي يا محمد إيه بقا إيلي حصل بالظبط؟

محمد: إيلي حصل بالظبط إننا انهزمنا، انضربنا.

عزوز: معلش، إحنا انهزمنا من زمان وانضربنا من زمان. ما هو ايلي بينضرب في بيته ويسكت ينضرب برا بيته ويسكت برضه. ولا إيه؟

محمد: إحكي لي إنت بقه، البلد عملت إيه أيامها؟

عزوز: عملت مظاهرات. عباس بيه وبتوع الاتحاد ورجالة الجمعية لموا أهل البلد وعملوا بيهم مظاهرة ونزلوا بيهم مصر ورجعوا... وخلاص.

وفي مشهد آخر من نفس الفيلم يستمر الحوار بين ذات الشخصيتين.

محمد: إيه حال البلد؟

عزوز: زفت. كل حاجة في البلد بقت زفت.

محمد: وأهل البلد عاملين إيه؟

عزوز: خرصوا. مبقاش فيه حد قادر يكلم ولا عايز يكلم.

محمد: محدش بيكلم يعني محدش بيفكر. كل واحد ممنوع من الكلام يعني ممنوع من التفكير.

ما أشبه الأمس باليوم. نفس الأوضاع ونفس السلبية ونفس التسلط ونفس الأسماء تكاد تتكرر. أليس عباس بيه هو من صار يتحكم في الجيش المصري، وهو الذي "يدير" مكتب وزير دفاع صار مشيرا دون أن يسجل عليه مشاركة في حرب أو تحقيق بطولات. أنى له ذلك وهو الذي يقضي وقته في طلب "الرز" وتوزيعه على الحسابات العلنية منها والسرية دون حسيب؟

مع خروج الشعب المصري للشوارع في الخامس والعشرين من يناير 2011، وفي ظل فترة "الرومانسية الثورية" كان شعار "الشعب والجيش يد واحدة" شعارا لا يعلى عليه. وبالرغم من كل ما ارتكبه المجلس العسكري من فظاعات في حق المتظاهرين بعد "استلامه" حكم مصر غداة بيان التنحي الشهير، ظل كثيرون يرددون الشعار ويقدمونه ضمانة وحيدة لتكريس "مكتسبات الثورة" حتى استيقظ الجميع على بيان تلاه وزير الدفاع، الذي كان رئيسا للمخابرات العسكرية قبلها، يعلن فيه انقلابه على أول رئيس منتخب قبل أن تتطور الأمور وتتسارع لنصل إلى المشهد الذي نحن عليه اليوم. 

وطوال فترات المد والجزر العسكري والثوري كانت رصاصات الجيش/حامي الثوار تتهاطل على "رفاق الثورة" لتفقأ العيون وتحصد الأرواح وترتكب المجازر في عمليات فض ومداهمات وهدم بيوت.

في فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي"، لقاء مصارحة بين محمد و فاطمة (ابنة عم المجند التي اغتصبها عباس بيه) يدور الحوار التالي:

فاطمة: أنا ما بلومش عباس، أنا بلوم نفسي. أنا للي سيبت نفسي أنخدع.

محمد: كلنا انخدعنا مش إنت بس. وكلنا حصل لنا زي ايلي حصل لك.

فاطمة: المخدوع مسؤوليته أكبر من الخادع. المخدوع هو ايلي معرفش يفكر، هو ايلي معرفش يتحرك، هو ايلي فضل ساكت لغاية ما انخدع.

شهر أكتوبر ليس فقط شهرا للاحتفال ب"نصر أكتوبر" المصري، بل فيه يحتفل الجزائريون بذكرى "ربيعهم" الذي سبق "الربيع العربي" بعقود. ففي الخامس من أكتوبر من العام 1988، عرفت الجزائر انتفاضة شعبية انتهت بانتخابات برلمانية اكتسحتها جبهة الإنقاذ في بلد لم يعرف غير الحكم العسكري نظاما منذ الاستقلال. انتهى "الربيع" بإقالة الرئيس الشاذلي بنجديد واستلام العسكر للحكم المباشر للبلد، والبقية يعرفها الجزائريون قبل غيرهم ممن عاشوا "المأساة الجزائرية" من موقع المتفرج البعيد.

عشرية سوداء أتت على الأخضر واليابس لا تزال تداعياتها ماثلة إلى اليوم بعد أن ظن الجيش الشعبي الجزائري أن القبضة الحديدية كانت كفيلة باستعادة المبادرة وإغلاق صفحة أي تغيير منشود. 

في الأيام الماضية تساقطت أسماء جنرالات مرحلة العشرية السوداء الواحد تلو الآخر وعادت رؤوس عدد من قيادات التنظيمات المسلحة تطل من جديد، ليبقى المستقبل غامضا في بلد يقاد من فوق كرسي متحرك بل من على رمال متحركة قد تجرف الجميع بعد استهلاك كل قطع الغيار المتوفرة التي قد لا تكون بالمناسبة متوفرة لقادة الانقلاب بمصر.

من فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي":

محمد (موجها كلامه لعزوز): بيتهيألي إن ايلي بيمسك سلاح بيبقى السلاح سيده، هو ايلي بيتحكم فيه. العمدة بتاعنا لما يكون بيكلم وحواليه الغفر بالسلاح بيقول كلام ثاني غير ايلي بيقولو لما ما يكونش معاه سلاح.السلاح هو ايلي بيكلم..

المفارقة أن رغبة العسكر الحاكمين في الظهور بالمظهر المدني يجعلهم يعتقدون أن تغيير البزة العسكرية بالبذلة والكرافطة يمنحهم شرعية الدولة المدنية المنشودة. والأعظم أن "الرئيس المدني" حين يعود للثكنة تصيبه رهبة المكان، فيضطر لوضع البزة العسكرية من جديد بل لاصطحاب الحراس الشخصيين ل"حمايته" من الجنود والعساكر، هم الذين لا يترك مجالا دون التغني بهم بل وشراء "ولائهم" زيادة رواتب وامتيازات.

في الدول العربية لم يعد الرصاص وحده ما ينهال على المواطنين بل البراميل المتفجرة والسيارات المفخخة والصواريخ الموجهة والطائرات بدون طيار بل وصل الأمر إلى الاستعانة بالسكاكين في مشاهد ذبح هوليودية تختفي وتظهر حسب طلب وهوى القوى الإقليمية والدولية. الرصاصة التي بقيت في جيب محمد "حتى لا يتكرر ما وقع" حسب وعده لفاطمة في مشهد رأينا فيه قطيعا من الخرفان يقاد طواعية لمرقده دون اهتمام بحالة الغزل التي يعيشها محمد/الجيش وفاطمة/مصر، وجهت للداخل المصري والعربي في وقت يستمتع في الصهاينة ب"إذلال" الأرض والحجر والبشر. 

وليس أبلغ تعبيرا عن الواقع العربي أن تتحول "الرصاصة لا تزال في جيبي"، التي أريد لها أن تكون عربون عزة وفخر تبث على القنوات كل سادس أكتوبر، إلى مجرد أغنية يرددها أبوالليف، وفي مقطع منها يقول:

لا يا من كنت فرعونا، الرصاصة لا تزال في جيبي..

إذا كنت مكنتش مسؤولا، طب أكلم مين في مصايبي..

تفضل فخامة "الرخيص"...