الجائع يحلم بسوق الخبز، ومن أضناه النضال يحلم بصفقة الحد الأدنى مع السلطة، وعلى قاعدة لا غالب ولا مغلوب!.
فلم تكد تقضي إحدى محاكم الجنايات في
مصر بالإفراج عن عدد هو الأكبر من نوعه منذ وقوع الانقلاب، حتى هلل كثيرون بما جرى واعتبروه عنوانا لمصالحة قادمة، بين "السلطة القائمة في مصر"، وجماعة الإخوان المسلمين، وكان المهللون في معظمهم من الذين يؤيدون الجماعة، من خارجها، ومن الذين كنت أظن أنهم الأكثر تشددا، والذين كانوا يقومون بحملة إبادة على مواقع التواصل الاجتماعي لكل من يقترب من رحابها بشطر كلمة، ولديهم استعداد لأن ينسوا الفضل، فلا يسلم من لسانهم من كان لهم قدم صدق في الوقوف ضد هذا الانقلاب، ولو كان في قامة الدكتور سيف الدين عبد الفتاح.
دفع مذيع قناة "مكملين" في حواره الارتجالي، الدكتور "سيف" ليتحدث عن تقديمه لاستقالته كمستشار للدكتور محمد مرسي، بعيدا عن سياق الحوار، وبدا الرجل متحرجا من أن يتكلم، لكن لم تكن هناك مندوحة، فتحدث عن الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس دون علمه، بل ودون علم نائب رئيس الجمهورية المستشار "محمود مكي"، فقيل "يا داهية دقي"، وتم رميه بالخيانة والعمالة، وبالسباب الذي أطلقوه على الدكتور محمد محسوب، لحديثه في برنامج أحمد منصور بقناة الجزيرة، الذي تطرق فيه لأخطاء ارتكبها الحكم، ونظر هؤلاء لاستقالة الرجل من منصبه الوزاري، على أنها الخيانة بعينها، ولم يشفع له أنه عندما قدمها، وبدأ الانقلاب على الرئيس فقد كان من الذين احتشدوا حوله، وبعد الانقلاب خرج من بلده هاربا، وكان بإمكانه أن يؤثر السلامة، كما فعل غيره، من الذين استفادوا من الحكم الإخواني، ولم يدفعوا ضريبة الاستفادة، وبعضهم يقف الآن في خندق الانقلاب!.
وقبل أيام "فضفض" القيادي بالجماعة الإسلامية عاصم عبد الماجد، بسؤال هل يوجد للإخوان خطة لإسقاط الانقلاب، ولم يشفع له أنه تحدث عن دور الجماعة وأهميتها، فقالت اللجان الإلكترونية فيه ما قال مالك في الخمر، وهو إرهاب يمارس ضد من يقولون نقدا في حق الإخوان تنظيما، وحكما، ومن الذين ينظرون للثورة المصرية من البوابة الإخوانية، فإذا تم الإفراج عن نائب أسوان "محمد العمدة" قالوا: صفقة، وإذا تحدث الرجل عن
المصالحة ببراءة غير المدرك لجوهر الصراع مع الانقلاب العسكري لتغيبه القسري عن الساحة قالوا: ألم نقل إنها صفقة. والصفقة هنا أمر مستهجن، وأنها تعنى بيع القضية، والتآمر مع الانقلاب، والآن لم نعد نسمع كلمة إنصاف للنائب السابق، وقد تمت مصادرة أمواله، واعتقال شقيقه بجريرته، ويهاجم الانقلاب بشدة في مداخلاته التلفزيونية!.
فإذا كانت القاعدة المستقرة، أن الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق، فإن "الغلاة الجدد"، يرون أن الحق يدور حيث دار تنظيم الإخوان، حتى وإن كان داخل التنظيم نفسه الموقف ونقيضه، فمن حق القوم أن يختلفوا هم، لكن ليس من حق من خارجهم إلا أن يسمع ويطيع، فإن هادن التنظيم، فسمعا وطاعة، وإذا اعتمد الخيار الثوري فهذا هو عين الصواب، وهناك كلمة تقال للمختلف هي "اركن"، أو "اركن جنب إخواتك"، ولا مانع من أن ينبري أحدهم باعتباره من "أهل الله" فيعلن أن قلبه لم يكن مرتاحا أبدا لهذا الذي تقرر إخراجه من ساحة النضال!.
ويبدو خطاب من لا يرقبون في أحد إلا ولا ذمة في من يقول كلمة نقد في أداء الإخوان في الحكم أو في الثورة، متشددا للغاية، وقد صاروا يمثلون عقبة في مواجهة أي مصالحة قادمة، وإذا كان من بين شباب الإخوان ورموزهم من شعاره "ثورة.. ثورة حتى النصر"، فإن هناك من لديهم استعداد للمصالحة وبتنازلات، وكنت أقول دائما إن مشكلة هذا الخيار هو مع هؤلاء، ولا أنكر أنني فوجئت بموقفهم المرحب بالمصالحة عند الصدمة الأولى!.
هذه الصدمة تمثلت في حكم الإفراج عن هذا العدد من المعتقلين، وهم بالعشرات وإن لم يتم التمكن من حصر أسمائهم، وجاء هذا بعد يومين من الحديث الارتجالي للسيسي بمناسبة انتصار أكتوبر الذي ألمح فيه إلى ما فهمه البعض أنه دعوة للمصالحة، فبدت مواقع التواصل الاجتماعي كما لو كنا في "مولد"، وإذا بالمتشددين يعلنون ترحيبهم بذلك، نكاية في القوى الوطنية الأخرى، فلترنا ماذا تفعل لمواجهة الانقلاب وهو يضربهم على أقفيتهم. في الحقيقة فقد توقف استخدام لفظ الانقلاب في هذه الليلة المباركة!.
كان الخطاب المعلن، هو الترحيب بالمصالحة حتى لو كان الثمن هو الإفراج عن المعتقلين وفقط، لتعود العلاقة "صافي يا لبن حليب يا قشطة"، ودون مطالب أخرى!.
وبدا القوم وهم في هذا "المولد" ليس لديهم استعداد للمتابعة الدقيقة فيفضحون أنفسهم بقبول الدنية، نكاية في الآخرين، فلوا فكروا وقدروا، وانتظروا حتى يطالعوا أسماء المفرج عنهم، فربما الخطاب المناسب في التعامل معهم هو "اركن جنب إخواتك"، و"قلبي لم يكن مرتاحا لهم من الأول"!.
فالذين حصلوا على البراءة هم من غير الإخوان، ومن أول مجدي قرقر، إلى مجدي أحمد حسين "حزب الاستقلال"، ومن محمد أبو سمرة "الحزب الإسلامي"، إلى نصر الدين عبد السلام "حزب البناء والتنمية – الجماعة الإسلامية"، ومن الشيخ فوزي السعيد "سلفي"، إلى الشيخ محمود شعبان "سلفي" أيضا!.
وإذا استعرنا التأويل بلا ضابط وخطاب "المكايدة السياسية" الذي اعتمده الموالون للإخوان فإن
السيسي أراد بحكم الإفراج هذا أن يحصر معركته مع الإخوان، لولا أننا سنصطدم بقرار النائب العام بالطعن في هذا الحكم، وأكتب هذه السطور قبل جلسة نظر الطعن للمفرج عنهم وحال الطعن دون خروجهم للآن.
أعلم أنه داخل الإخوان جناح، هو المتمكن والمسيطر إلا قليلا، يتمنى المصالحة، ولو على الحد الأدنى، الذي يتمثل في الإفراج عن المعتقلين، ولا يخلو رأيهم من وجاهة، فالمعتقلين، وإن كانوا طالبوا الجماعة بألا تضعهم في الاعتبار وهي تتخذ قرارات ثورية ويعتبرونهم في عداد الشهداء، رفعا للحرج، إلا أن هذا الجناح يرى أنه أمام مسؤولية أخلاقية تجاه هؤلاء المعتقلين، وهم ليس مع المغامرة فيلحقوا أضرارا بالتنظيم الدولي وقياداته الذين يعيشون في الغرب منذ سنوات طويلة، إن وضع التنظيم على قوائم الإرهاب!.
ومن وجهة نظرهم أن الثورة ليست في أدبيات الجماعة، وقد لا يمانعون في قرار باعتزال السياسية والعمل الدعوى وفق سقف النظم الشمولية، ثم إن شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" ليس شعارهم وإن امتثلوا له في السابق، وهم يرون أنه بأسلوب الإخوان الهادئ غير المتوتر فالمستقبل لهم، وقد خذلتهم القوي الثورية الأخرى. وفي مواجهة هذا الجناح يوجد تيار ثوري سبق الإشارة لشعاره!.
ولست هنا في معرض إطلاق أحكام قيمة على كلا الموقفين، فقط أود أن ألفت عناية الذين أبدوا استعدادا للهرولة عند القراءة المتعجلة لحكم محكمة الجنايات بالإفراج عن هذا العدد الكبير من المعتقلين، أن السيسي لا يمكن أن يقوم بدور عبد الناصر والسادات في وقت واحد، فزمن السادات الذي رفع المظالم التي وقعت على الجماعة في عهد عبد الناصر لم يأت بعد، فالانقلاب الذي أفرج عن كل هؤلاء من غير الإخوان، يتعقب المنتمين للجماعة وعناصرها ليس فقط لاعتقالهم ولكن بتصفيتهم جسديا، ليسقط منهم شهداء في اللحظة التي كان فيها القاضي يتلو أحكام البراءة.
لقد فات هؤلاء أن السيسي لن يقدم على هذه المصالحة بسهولة، لأنها ليست من خياراته، فقد بنى شرعية وجوده بالحرب على الإخوان، واستئصالهم من ضمن المهام الموكولة إليه إقليميا، ولا يمكن أن يتنازل عن هذا الدور، لأنه سيكون كمن تنازل عما في يده بحثا عما في جيبه، وهو لا يأمن للإخوان وإن اعتزلوا السياسة كلية، وهو هنا في معركة حصلت على المباركة الدولية، ويتم غض الطرف عن كثير من التجاوزات لأنها في حق الإخوان، وهذا الدور مكنه من أن تقبل به القوى المدنية حتى تلك التي تقبل به الآن على مضض، وتؤيده دون مقابل، باعتباره هو الواقف في وجه الإخوان، وإذا حدثت المصالحة، فقد يواجه بمعارضة مدنية، لن يسمح غربيا بتجاوزات في حقها، وليس له أن يقول هنا أنه يقمع المتطرفين الدينيين!.
بعض القوى المدنية، وإن فاقت من تأثير "البنج"، وتأكد لها أن 3 يوليو كان انقلابا عسكريا مكتمل الأركان عادت بمقتضاه دولة مبارك للحكم، فإنها ترفض العودة للخيار الثوري، لأنه إذا أسقط السيسي أعاد الإسلاميين عبر صناديق الانتخاب، وإذا حدثت المصالحة فستكون ثورتها على السيسي والحلفاء الجدد له.
فلماذا يعقد السيسي مصالحة مع الإخوان؟!.. ويا أيها المرحبون بالصفقة المزعومة: بصرة!
[email protected]