ضحكت حد القهقهة وأنا أستمع لمعلق سعودي - قدّم على أنه خبير في الشأن التركي - يتكلم بكل حماسة الدنيا من على فضائية "سكاي نيوز" من أبو ظبي، أن أردوغان أرسل جاموسته السوداء لمنطقة الأكراد، ليجبرهم على التصويت له أو الاعتقال، ولذلك انتصر.
أي سفه مخجل هذا، والعالم كله يراقب هذه الانتخابات ويرصدها، وحزب "العدالة والتنمية" التركي فاز بأغلبية تاريخية لم يسبق إليها قط، بل حتى الغرب الذي تمنى سقوطه، اعترف بشعبيته الجارفة، ثم يأتي مثل هذا المحلل –أو المخلل لا فرق- ليفضح نفسه، والفضائية التي ظهر عليها بهذا التحليل الساذج، الذي يذكرنا بالإعلام المصري في الستينيات.
قبل أن أمضي في فكرة مقالتي أودّ أن أبسط رأيي في ظاهرة أردوغان، وقد كتبت هذا قبل عام ونصف في صحيفة "الوطن" السعودية، وفي عزّ الجفاء السعودي مع تركيا، وها أنا أعيده أخرى في عزّ التقارب معها، وفي الحالين فرأيي الشخصي لم يتغير. نظرت وأنظر لأردوغان وما فعله بكثير من الإعجاب، فالرجل حقق معجزة- ليست اقتصادية فحسب- بل نهضوية كاملة، وقفز ببلاده في غضون عقد من السنوات لمصاف متقدمة، وجعل تركيا قبلة للسياح والمستثمرين، وحلّ أزمات متراكمة ورثها عن أسلافه كالبطالة والسكن، وما فعله لتركيا من نهضة لا تتسع لها سطور المقالة.
في مقابل كل الإعجاب الآنف، لست من أولئك الذين يضفون على الرجل هالة من القداسة والأوصاف التي تجعله خليفة للمسلمين، بل الرجل يعمل لوطنه تركيا ومصلحتها بالدرجة الأولى، وسقت في مقالتي تلك ما قاله الكاتب التركي المحسوب على أردوغان، إسماعيل باشا الذي كتب حينها: "هناك فئة تبالغ في رؤيتها وتطلعاتها، وتضع أردوغان في مكان أرفع بكثير مما فيه، وتراه كأحد سلاطين الدولة العثمانية أو زعيم يستحق تولي خلافة المسلمين. في الحقيقة أن هؤلاء يسيئون إلى أردوغان ويظلمونه من حيث يدرون أو لا يدرون".
بعيدا عن هذا الرئيس التركي المعجزة، أعجب من بعض إعلام دول الخليج، خصوصا تلك القنوات والأقلام المحسوبة على وطني السعودية، أن تنجرف لتكتب ضد الرجل بصفاقة لا متناهية، أو تلك القنوات الإخبارية الشهيرة المحسوبة على السعودية، أن تنحاز للدولة التي تبث منها، ولا تنحاز لسياسة الدولة التي أنشأتها وتدعمها، ومن المفترض أن تكون ممثلة لسياسة دولتنا وتوجهات قادتنا، فتلك الازدواجية تجعل من إعلامي مثلي يصفق كفا بكف، وبكثير من التعجب والحيرة يطالع ما يكتبه بعض الإعلاميين السعوديين، ويسأل: أين يعيش هؤلاء؟، ويُصدم بتلك التقارير والنصوص المكتوبة في شاشات بعض الأقنية المحسوبة علينا، التي لم تراع أبداً مصلحة وتوجهات قادتنا السياسية.
نحن في مسيس الحاجة اليوم أن نكسب تركيا أردوغان، ومصالحنا في موضوع سوريا تتطابق، وهناك المواجهة مع إيران وتمددها، بل وتغلغلها في الدول العربية، وهذه المواجهة تحتم علينا أن نتحالف مع دولة كبيرة كتركيا، تتماس في جزء كبير وحسّاس مع إيران. لدينا حرب اليمن الذي نحتاج فيه دولة إقليمية كبيرة كتركيا، تكون سندا سياسيا ولوجستيا لنا. كل المعطيات تقول بحاجة السعودية ودول الخليج في راهن اليوم إلى فوز أردوغان وحزبه، إذ لو فاز حزب الحركة القومي أو حزب الشعب الجمهوري المعارضين، لكانت السعودية أول الخاسرين على الإطلاق، إذ تختلف أطروحات وتوجهات ذالكما الحزبين في موضوع سوريا ورؤية قادتنا بالكامل.
كوني أكره أردوغان وأبغضه لأيدلوجيته وفكره الإسلامي، لا يعني أني لا أنحاز لمصلحة وطني الذي أنتمي عندما تحتم الظروف، ولكن من يُفهم هؤلاء!!. خذوا مثالا في الكاتب والسياسي العريق عبدالرحمن الراشد مدير عام قناة "العربية" الأسبق، فهو خصم تاريخي وعتيد للإسلاميين وللإسلام السياسي في عمومه، ولطالما سنّ قلمه وقناته في الهجوم عليهم، بيد أن الرجل عرف بخبرته السياسية ما يعنيه فوز أردوغان في هذه الظروف، فكتب مقالة بعنوان:"فاز أردوغان في اللحظة المناسبة"، قال فيها بأن فوز حزب أردوغان بالغ الأهمية كونها دولة مؤثرة في مستقبل سوريا في وقت بالغ الخطورة، وأن ضعف أردوغان كان سيمثل ضعفا للمعسكر السعودي القطري. وتابع الراشد قائلا:"إن الفوز المبهر لحزب أردوغان خيب آمال النظام السوري وإيران، اللذين كانا يأملان في فشل حزب العدالة والتنمية في الحصول على الأغلبية المطلوبة لتشكيل حكومة، بما يضعف الرئيس أردوغان في المفاوضات الحالية".
لا تملك إلا أن تحترم وطنية عبدالرحمن الراشد وإن اختلفت معه فكريا، وتحيّ هذا الحسّ السياسي البعيد الذي تتمناه لبقية أولئكم الإعلاميين السعوديين الذين يسبحون ضد سياسة دولتنا، من حيث يدرون أو لا يدرون، وللأسف أنهم في كلا الحالين كارثة على وطننا اليوم بوقوفهم غير المبرر ضد توجهات قادتنا. كم أتمنى أن يملك البقية من الذين يديرون القنوات المحسوبة على السعودية، أو الكتبة الذين يملأون زوايا الصحف، شيئا من وعي ووطنية عبدالرحمن الراشد، وأن يصمتوا على الأقل إن لم يعجبهم فوز الرجل، لأجل وطنهم وسياسة قادته الجديدة، التي تقول بالتحالف الوثيق مع تركيا أردوغان.
في المحكات، تتبين الوطنية الحقة من المدّعاة، فشتان من يدعي حبّ الوطن ويتشدق به إن وافق هواه، وإن تضادت الظروف وأيدلوجيته نكص وخرس وبات خنجرا في خاصرة وطنه.