من أخطر كوارث
الاستبداد على الأجيال؛ ما يخلفه من عاهات أخلاقية، وتشوهات نفسية في نفوس الناس. فتخيم عليهم ثقافة الصمت وتتسلل المخاوف إلى النفوس فتقتل روح المبادرة وتختفي الثقة بالنفس ويموت الإبداع وتستشري أخلاق الجبناء من نفاق وكذب ورياء ولامبالاة وغياب الشعور بالمسؤولية والتأقلم مع الفساد والاستسلام للانتهاكات ومصادرة الحقوق وغياب الاحساس بالكرامة وعزة النفس.
ولذلك، فإن من أقبح إفرازات الأنظمة هو صناعة ثقافة الخوف والاستسلام والخنوع التي قتلت الإنسان وعطلت طاقاته وقدراته الهائلة، وحكمت عليه أن يعيش على هامش الحياة الإنسانية الفاعلة والمنتجة والمبدعة بعد أن قتلت إرادته وكبلت حريته وتسلطت على أمنه الداخلي بالمخاوف والتهديدات وحاصرت حركته الخارجية بالقمع...
وقد ورثت الأنظمة العسكرية التربية القمعية من الاستعمار الأجنبي، الذي ظل بعد الاستقلال الشكلي مهميناً على مجمل تفاصيل حياتنا العلمية والعملية والسياسية والاجتماعية بواسطة الأنظمة الاستبدادية التابعة للهيمنة الغربية...
وعندما أرادت الشعوب العربية أن تتحرر من ثقافة الخوف وتتطلع إلى الحرية والديمقراطية استشعر الاستعمار الخارجي وعملاؤه خطورة تحرر إرادة الشعوب العربية والإسلامية، وبدأت المؤامرات على الربيع العربي من أول وهلة منذ أن بادرت وزيرة الخارجية الفرنسية لإعلان استعداد فرنسا لقمع الانتفاضة التونسية، وعندما أدركت الدول الاستعمارية قوة تيار الحرية تراجعت عن منهجية القمع العلني وأظهرت التأييد، وبدأ مكر الليل والنهار والتخطيط السري للانقلاب على حركة الشارع العربي وصناعة الإرهاب وخلخلة الوضع الأمني في ليبيا وسوريا واليمن لترويض الشعوب وتهيئتها لقبول العودة مرة أخرى إلى قفص العبودية للحاكم بأمر الغرب وبواسطة أدوات القمع..
والاستعمار الأجنبي وهو يصدر تربية الخنوع للهيمنة ويروج لها بأساليبه الخفية، لا يقبل تطبيق هذه التربية في شعوبه؛ حيث ترفض الدول الاستعمارية تسميم أبنائها بثقافة الذل والخنوع وترويضهم على الاستسلام المهين، وتعمل على تنمية ثقافة الحرية والشجاعة المدنية وتنمية المسؤولية الأخلاقية والابداع والفكر الناقد، واستنهاض جميع الطاقات البناء والتنمية والمشاركة السياسية والاجتماعية.
ولم تعد اليوم تنطلي على الشعوب مخططات الاستعمار والاستبداد في عصر ثورات الاتصال والإعلام والمعلومات، ولم يعد أحد يستسيغ ما تروجه جوقة نفاق الإعلام الرسمي في تشويه ثقافة الحرية والشجاعة والترويج لثقافة وطنية تختزل الوطن في شخوص النظام، وتعتبر الشجاعة في النقد خيانة والنفاق والكذب وطنية وإخلاصا.
ولأن الأنظمة الاستبدادية تستشعر إخفاقها في الترويج لثقافة الخوف، فإنها تلجأ لصناعة الخوف باستخدام أدوات الترهيب والتعامل العنيف مع الأصوات الشجاعة والحرة بالسجن والتعذيب ومصادرة الحقوق وقطع العيش.
مع أنها تدرك جيدا أنها لو استثمرت شجاعة الشجعان وشجعت ثقافة الحرية والشجاعة المدنية والمسؤولية الأخلاقية وروح المبادرة والاقدام لكانت مجتمعاتنا أكثر قوة وأصلب إرادة وأغزر إبداعاً، كما هو حال المجتمعات المتقدمة التي تدرك أن تنمية الحرية والشجاعة المدنية وروح المبادرة هو السبيل إلى بناء مجتمعات قوية يتبوأ فيها الشجعان قيادة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بدلاً من الزج بهم في السجون كما هو الحال في العالم المتخلف.