لا تزال ذكرى يناير تمثل حالة في المجتمع لكل من مسّتْه، سواء كان مسّ خير أو ضر، فهي ذكرى الانتصار والحرية والديمقراطية لكل من شارك بها، وهي ذكرى ضياع المصالح والبطش والانهزام، لكل من رفضها أو قامت ضده.
(1)
أصبحت فكرة احتكار الدولة للعنف من المسلمات القانونية والسياسية والاجتماعية، لكن استقرار هذه القضية يهتز كلما جافت الدولةُ الرشدَ في استخدام ذلك الحق، وممارسات الأنظمة العنيفة تصل في حالات إلى حد الإرهاب، كالتعذيب والقتل به أو بالتصفية المباشرة أو الاحتجاز دون سند قانوني، وكل ذلك كان متواجدا قبل الثورة، مما استدعى انفعالا شعبيا -غذّته عوامل أخرى غير الحريات من دون شك- وصل ذلك الانفعال لانتصار المجتمع على الجماعات الإرهابية الرسمية بالدولة، وأصبح من العسير تحلل تلك الآمال من العقل الجمعي لمجتمع بعد تذوق فارق المعيشة، ولو لفترة وجيزة كما حدث عقب الثورة من انتكاسات مفتعلة من النافذين داخل إدارة الحكم.
(2)
في ذكرى الثورة تشتعل الرغبة مرة أخرى لاستقلال القرار الوطني، وهو استقلال لا ينبغي أن ينصرف الذهن إلى شِقِّه الخارجي فحسب، بل هناك استقلال للقرار الوطني عن الداخل أيضا، وبيان ذلك أن القرار المصري خصوصا ظل مرتهنا للخارج الأمريكي وحليفه البغيض المحتل بالمنطقة، ولم يحدث انفكاك حقيقي عن السيطرة الخارجية حتى عقب الثورة، وبقدر ما الحاجة للتخلص من ذلك الارتهان ملحة، فهناك إلحاح آخر يتعلق بفك ارتهان القرار الوطني عن الجماعات داخل الوطن أيا كانت تلك الجماعة مدنية أو عسكرية، فالعلامة الصحية هي علامة توازنات القوى داخل المجتمع والضغوط التي تؤدي لتحقيق مصالح كل فئاته، لا أن تكون السيطرة لإحدى الطبقات أو الفئات داخله، ولا يمكن بناء وطن أو تحقيق حرية وديمقراطية دون التخلص من السيطرتين الخارجية والداخلية.
إن من أعظم ما أحدثته يناير أنها أعلت من الانتماء العام للوطن، وخفضت كل انتماء آخر، فلم نَرَ لافتات لتيار سياسي، أو وقوف تجمعات بأكملها ذات انتماء واحد "طبقي أو مهني" ضد مطالب الثورة تحديدا -وإن وقع الاختلاف حول أهلها- فكل الانتماءات الفرعية سقطت، وبقي الانتماء الأعم للوطن من جهة، وللإنسانية من جهة أخرى بما تحمله من قيم العيش والحرية والكرامة والعدالة، ولا يصح ولا يمكن أن يتم التنازل عن ذلك المكتسب، رغم الانتكاسة الحاصلة في ذلك الملف تحديدا، إلا أن ما أحدثته الثورة يقول بأن ترميم الحاصل ممكن.
(3)
على أبواب يناير خرج القابض على سلطات البلاد ليقول إن هذا العام عام الشباب، وهو العام الذي بدأ باعتقال ما يقرب من 700 مواطن تحسبا لذكرى "الاحتفال" بالثورة، وبدأ بالجلسات الفعلية لما يُسمى بمجلس النواب، وهو البرلمان الذي بدأ بألفاظ خارجة، ووقائع هزلية كرفض القسم البرلماني من أحد النواب والاهتمام بالوجبات لا التشريع، كما بدأ بتشكيل اللجان بصورة فجة، وموافقة الأعضاء على مئات القوانين دون مناقشة ودون إدراك لمحتواها، حتى وافقوا في جلسة واحدة على قانونيْن متعارضيْن، الأمر الذي يفسر لماذا قاطعه أغلب الناخبين ليوصلوا رسالة عدم ثقة في المرشحين والسلطة الحاكمة من جهة، وعدم اكتراث بالسياسة من جهة أخرى؛ لإمكانية هدرها وقت أن يقرر أصحاب القوة ذلك، وكانت المقاطعة الملحوظة من الشباب، إذن رسالة الشباب في عامهم هي أن العام والمستقبل عموما سيكون لإرادتهم لا إرادة غيرهم، وأن العام ربما يكون هو عامهم فعلا بإحداث تغيير آخر في المشهد يمكّنهم من طموحاتهم ولا يمكّن أحدا منهم مرة أخرى، وهذا وعدهم في عامهم، سننتزع أحلامنا من بين كوابيسكم التي تحيطوننا بها.
(4)
يناير هذه المرة لم يدع إليه أحد ربما كان ذلك لخوف التيارات بمصر من تحمل كلفة فاتورة الدعوة، وربما يكون ذلك أحد مميزات هذه المرة، فلا يوجد من يختلف الناس حول دعوته، بل الحراك سيكون جماهيريا خالصا، وعدم الدعوة من تيارات محددة يفقد الحملة الأمنية المسعورة جزءا هاما من فعاليتها.
المتغير بين يناير 2011 و2016 أن الأول كان فيه الاستبداد محسوبا مع ترك مساحات للتنفيس، والآن لا توجد مساحات للتنفيس بل ضغط يؤدي لانفجار غير معلوم ولا متوقع موعده، وفي 2011 كان رموز النظام زكريا عزمي وصفوت الشريف وفتحي سرور وكمال الشاذلي ومفيد شهاب وأسامة الباز وعمر سليمان وطنطاوي، صحيح أنهم أفسدوا الحياة بمصر ونهبوا كثيرا من خيراتها وحصنوا الاستبداد، ولكن كان منهم سياسيون ورجال أمن يعرفون متى يتوقفون عن التصعيد وكيف يحافظون على الحالة "استبداد ونهب مستقران"، قطعا تغير الحال للأسوأ عقب دخول مجموعة جمال مبارك المشهد، أما النظام الحالي فيكفيك لتعرف رموزه أن تنظر لأكبر رأس فيهم.
أما الثابت بين الفترتين، الاستبداد والضيق المعيشي وأيضا نكبات سياسية يستشعرها المواطن؛ لفداحتها من جهة، ولاهتمامه بالسياسة نتيجة الثورة من جهة أخرى، وكلا الفترتين مؤدّاهما واحد، وهو الرغبة في التغيير، مع فارق دخول الحل الجماعي في وعي المجتمع، ولم يكن قد دخل في 2011، وهو متغير لو يعلم القابضون على السلطة أنه مخيف.