الأطروحات التي قدمها الدكتور محسوب هي في حقيقتها تمثل الحد الفاصل بين الثوري والسياسي.
الثورة هي تغيير جذري وشامل وهو ما عبر عنه شعار: الشعب يريد إسقاط النظام.
أما السياسة فهي تعمل بلغة الممكن والمتاح، وإن اتفقت مع الثورة في سعيها للإصلاح، ولكنها إصلاح تدريجي.
وهو الفارق بين شعار مصطفى كامل في مواجهة الاحتلال: الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وبين دهاليز السياسية التي نتجت من ثورة 1919، فما تحرر الشعب منها حتى اليوم، وما رفع عنه الظلم، ولا تحققت العدالة.
المبادرة صيغت بروح انهزامية حتى وإن نفى أصحابها، فتقول في البند الثامن: "تفهم الأوضاع الإقليمية والدولية والخلل الواضح في موازين القوى، والسعي للتعامل معها دون الانكسار أمامها".
باختصار شديد: قناعة الكثير من الساسة أن الداخل
المصري لا يملك تغيير الوضع الداخلي دون رضا القوى الإقليمية والدولية، وسوريا خير مثال، علاوة على الحالة المصرية نفسها. فلا بد من الحصول على الرضا الخارجي. (تذكروا مقولة مصطفي الفقي أن الرئيس المصري لا بد أن يحوز الرضا الأمريكي).
والخارج لا يرضى بسلطة ذات هوى إسلامي، ولا ترغب في أن يتصدر الإسلاميين في قيادة أنفسهم؛ وإن كان يرضى باحتوائهم في منظومة السلطة، والسماح لهم بتواجد شكلي، فهذا يعطي شرعية للسلطة ومن ثم يضمن لها استقرار ما.
إذن؛ فليرجع الإسلاميون خطوة للوراء، أو ليقف الطويل في الخلف والقصير في الإمام، أو ليترك التيار الإسلامي المشاركة السياسية عشر سنوات. سنفعل هذا وساعدونا في إزاحة الاستبداد، هكذا يقول السياسي؛ فن الممكن.
ونقول: إن لم يكن للشعب سيادته وحقه في اختيار الطريقة التي يحكم بها ففيم الثورة إذن؟ وأي استبداد قد زال، ونحن يتحكم فينا الأقوى ولا نستطيع أن نخرج من سلطانه؟
تمضى الأطروحة في اتجاه الإقصاء لأغلبية الشعب المصري وفرض الصورة التي ترضي القوى الإقليمية والدولية بلغة رومانسية خادعة؛ يقول بندها السابع: "التسليم بأن أحدا لا يملك وحده البديل للمنظومة القائمة، وإنما يتشكل البديل من الجميع دون إقصاء، وكل ما يطرحه أي طرف هو جزء مكمل لتشكيل صورة نهائية لبديل وطني شامل". فماذا لو اختلفت الرؤى؟ ماذا لو تعارضت أطروحات الأطراف؟ هناك فصيل من الشعب المصري (أزعم أنه الأغلبية) يريد منظومة الشريعة ويراها مصدر الحرية والعدالة الاجتماعية، لما تملكه من أساس فلسفية لا يمتلكها النظام الديمقراطي الاستبدادي الذي تمثله تلك الأطروحة. فما المصير وهناك طرف آخر يرفض تلك الرؤية؟ أيهما سيستبعد؟ وعلى أي أساس؟
الأطروحة تحسم أمرها في الآليات المذكورة في البند العاشر: "الإقرار بمرحلة تشاركية طويلة" ربنا يعطيكم طول العمر، "يجري فيها تثبيت دولة القانون وقيم الديموقراطية". هذا هو إذن؛ يعنى علينا نحن العامة أن نترك الأمر للنخبة، فنحن لا نفهم في هذا الأمر ليضعوا والقوانين والتشريعات والإجراءات الحاكمة التي في النهاية ستقضى على فرص الأغلبية في اختياراتها، (لترجعوا مثلا للمادة 78 من دستور 23 أول دستور مصري ديمقراطي، فهي مادة إقصائية للشعب، نخبوية بامتياز). بل إن تلك القوانين ربما تجعل من مطالب الأغلبية جريمة يعاقب عليها القانون. استبداد مقنن ستفرضه قيم الديموقراطية. فاستبعاد رغبات الأغلبية بحجة التشاركية.
(ولا تجعل عزيز القارئ أحدا يلقنك أن الديموقراطية تعنى الحرية وحق الشعب في الاختيار، فما هي إلا نظام استبدادي ناعم بخلاف الاستبداد العسكري الغاشم).
أما الأعجب فهو استخدام أستاذ قانون وسياسي مخضرم مثل الدكتور لعبارة: "هدم الدولة" في البند الرابع، فهو بالتأكيد يعلم أن الدولة: شعب وأرض وسلطة. والسلطة تمارس السيادة عبر مؤسساتها الحاكمة وفق قانون ما، وهذا ما يطلق عليه النظام، الذي خرج الشعب في ثورة يناير يهتف مطالبا بإسقاطه (الشعب يريد إسقاط النظام). فهل كانت ثورة يناير تهدف لهدم الدولة؟ أم أن الدولة اختصرت في السلطة؟ وما الفارق إذن بين عبارة الأطروحة، وعبارة النظام الاستبدادي الذي يتصور إزاحته هدم للدولة؟
الثورة تعنى إسقاط النظام واستبداله بنظام آخر، وهذا يقتضى إزاحة المؤسسات التي أشاعت الفساد والظلم تقنيناً، وحماية.
فمؤسسة كالقضاء قامت على الظلم والعدوان، وهي صاحبة تاريخ طويل في هذا، وما تكشف عنها يقضى بهذا، وهي قد نفت صلحائها فأي خير في بقائها، وأي شر في استبدالها؟
ولم تترك الأطروحة فرصة للحوار أو المناقشة، بل قررت أن هؤلاء متطرفين وجب عزلهم وإقصاؤهم. وهكذا اصطف الديمقراطيون في خندق الاستبداد صراحة. ولم يستقيموا على أصول خطابهم السياسي.
وربما أتى البند الخامس الذي يقول: "تجنب شعارات الإقصاء"، نتيجة استشعار الحرج من الخطاب الإقصائي السابق له، وربما لغير ذلك.
على كل فالأطروحة تقول في مقترح الخطوات العملية: "تقدير كل التطلعات وتطمين كافة المخاوف لدى كافة الأطراف".
فمن جملة التطلعات التي أحلم بها أن أعيش في وطن حر غير خاضع للقوى الخارجية، ولا تضع أمريكا أو غيرها شروط على السلطة التي يخترها، والبند الثامن من هذه الأطروحة يحرمنا من ذلك التطلع. والذي بدوره يحرمنا من اختيار النظام الحاكم لنا.
أما من جهة المخاوف؛ فإننا كتيار إسلامي لم نر من سائر القوى سوى الغدر والتربص والرغبة في إلقائنا في السجون، بخلاف نكران الحق، فمع أن التيار الإسلامي هو الذي حمى الميدان أيام موقعة الجمل، خرج رفقاء الميدان بعد فترة ليست بالطويلة ليقولوا أن الإسلاميين ركبوا الثورة.
على الرغم أن أول من بدأ بالنضال السلمي مع السلطة كان التيار الإسلامي، وهم أول من قال: لا لمبارك، فأنكر هذا التاريخ، ووسم التيار الإسلامي بالإرهاب حتى من رفقاء الميدان.
وغير ذلك الكثير، لن ننكأ الجراح، على الرغم من استمرار سلسلة الكذب. وسنفترض كما قال البند السادس من الأطروحة: "أن الأحداث أعادت تشكيل الأفكار وتعليم الدروس وتغيير بنية ورؤية الكيانات". فهل نرى تغييرا حقيقيا في المواقف وفعلا على الأرض؟
وهذا يجعل تقيم المواقف ليس على ما جرى من 2011 وحتى تموز/ يوليو 2013 كما رأت الأطروحة، ولكن على الواقع الحالي، فكل من يقوم بالإقصاء وينكر حق فصيل من أبناء الوطن، أو لا يرى الظلم الواقع عليه أو يكذب عليه، أو غير ذلك المفترض أن يكون خارج تلك الجمعية المقترحة وأن تصنفه الأطروحة من المتطرفين، وهذا لم نره فيها.
فما هي التطمينات التي ستقدم لنا؟ أم أن الأطروحة تتعامل مع الإسلاميين كسائر الأطروحات والمبادرات؛ وكسائر الثوريين زعموا، مقاولي أنفار، يخرجون ليموتوا ويعتقلوا، ثم يأتون هم على أسنة النفوذ الدولي والإقليمي، ليتصدروا المشهد ويفرضوا رؤيتهم.
في النهاية ما قدمه الدكتور محسوب هي واحدة من طوفان
المبادرات التي قدمت، ومصيرها لن يختلف كثيرا؛ وإنما فقط أردنا من خلال التعليق عليه مناقشة الأفكار وتطوراتها ومآلاتها، فمثل تلك الأطروحات تعبر عن عمل سياسي في إطار المتاح، بخلاف الثورة التي تصنع الواقع، وتبدل اتجاه الأحداث.