كتاب عربي 21

إشكالات ما بعد الاستبداد.. تفكك المؤسسات (2)

شريف أيمن
1300x600
1300x600
قامت حركة يوليو 1952 لأجل الانتصار للمجتمع الذي يرزح تحت الاحتلال -فيما بدا من مبادئ معلنة لتلك الحركة- ثم سرعان ما تم الانقضاض على الحياة الاجتماعية والسياسية لصالح الجيش، ثم تعرضت المؤسسة العسكرية لهزيمة 67 أمام الدولة الناشئة بالمنطقة، مما أثّر على العلاقة بين المجتمع وجيشه، وسرعان ما تم ترميم ذلك الصدع بعمليات حرب الاستنزاف 67 : 70 على اختلاف مراحل القتال في تلك السنوات، ثم بنصر أكتوبر في 73، وغاب الجيش بعد ذلك عن المشهد السياسي "المباشر" في مصر إلا في مناسبات محدودة جدا حتى قامت ثورة يناير 2011.

كان شعار "الجيش والشعب إيد واحدة" يمثل قناعة ملايين المصريين الذين وجدوا موقف المؤسسة العسكرية أقرب للشارع منه إلى السلطة، أو هكذا بدا حينها، واحتاج تغيير تلك القناعة عند الكثيرين بضعة أشهر في أحداث عديدة آخرها "محمد محمود" في نوفمبر 2011، والذي شهدت أحداثه وما تبعها وجود تفاعل واسع مع هتاف "يسقط حكم العسكر" ليبدو أن هناك تغيرا في تلك العلاقة التاريخية، وظل الهتاف يرتفع حتى تم تسليم السلطة لأول رئيس مدني منتخب، ثم حدث التورط السياسي المباشر بما تم في يوليو 2013، والذي لم يتوقف عند حدود السياسة العامة والملف الأمني والقضايا الخارجية فقط كما كان يتم قبل الانقلاب، بل تجاوز ذلك ليشمل كل شيء وخاصة الاقتصاد.

رفضت قيادات المؤسسة العسكرية بشكل قاطع وفي أكثر من مناسبة خضوع مواردها وإنفاقاتها المالية للرقابة المدنية، باعتبار خطورة ذلك على الأمن القومي، كما أنهم يذكرون في أكثر من مناسبة أن موارد الجيش من مشروعاته ومن "أمواله".

ما يسُوقه أصحاب هذا القول يحمل مغالطة غير عادية؛ فإذا كان الجيش هو الذي يُوجد موارده فليتوقف عن أخذ الجزء الأكبر من ميزانية الدولة، وليتوقف عن تحويل الخدمة الإلزامية لآلاف المجندين إلى مصانعه وفنادقه وطُرُقه ليقوم بمنافسة السوق بمصروفات أقل؛ إذ إن إجمالي ما يحصل عليه المجند لا يتجاوز 40 دولارا شهريا، بخلاف عدم دفع فواتير الكهرباء والغاز والهواتف والإعفاءات الضريبية أو مصروفات التراخيص، وغير ذلك من المصروفات التي لا يدفعها الجيش أو يحصل على مواد خام بأسعار أقل، ثم يطرح المنتجات أو الخدمات بالسوق المنهك بأسعار متفاوتة.

في حين كان ما سبق موجودا منذ سنوات إلا أن عاملا جديدا دخل بالصورة عقب يوليو 2013، فالمؤسسة العسكرية دخلت في كل المجالات الاستثمارية وعلى الأخص في المجال العقاري، فتقوم الدولة بتكليفها بالأمر المباشر بالقيام بمشاريع كالمليون وحدة سكنية أو إنشاء الجسور "الكباري" والأنفاق والطرق مع منحها حق الانتفاع بتلك الطرق لمدد تبلغ 99 سنة، وكذلك قيام الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بحفر التفريعة الجديدة لقناة السويس، بالإضافة للدخول في مرفق الاتصالات كذلك، واحتكار حتى الإعلانات على الطريق الدائري بمصر، وأخيرا قيام السيسي بنهاية العام الماضي بتمكين الجيش من إنشاء شركات خاصة به برأس ماله الخاص أو مع مستثمرين مصريين أو "أجانب"، ليعصف كلِّيَة بمفهوم الأمن الذي تخضع تفسيراته لجهة واحدة فقط، لا يقدر أحد على مناقشتها أو اتهام القائمين على أموالها بالفساد، إما بالقوة أو بالتعديل الذي قام به المشير طنطاوي في مايو 2011 في القانون رقم 25 لسنة 1966، وجعل ضباط القوات المسلحة لا يخضعون للمحاكمة أمام محاكم القضاء المدني، وجهاز الكسب غير المشروع في حال تورطهم في قضايا فساد مالي.

كل ما تم ويتم إسناده للجيش يؤذن بتغيير العقيدة للجيش فيتحول من عقيدة قتالية إلى عقيدة تجارية، ومن عقيدة حماية إلى عقيدة جباية، ومن مكوَّن بالمجتمع إلى مكوِّن للمجتمع، فينتج عن ذلك شعور أفراد تلك المهنة بالتميز والاستعلاء لينتهي الحال بتفكك تلك المؤسسة إلى جماعات مصالح، قطعا ستتضارب في لحظة ما، ويعلو الخلاف في لحظة لاحقة فيؤثر الخلاف على المؤسسة لا أفرادها، الذين يتحركون وفقا لأوامر قادتهم دون قدرة على الإحاطة بأسباب الحراك أو الاعتراض عليها.

ينضاف لذلك التدخل الاقتصادي المستفز لشرائح اقتصادية واسعة بالسوق والمجتمع، تورط المؤسسة في تحمل المشاكل الأخرى مما لا يناط بها حمله، كما بالصورة الشهيرة لأحد الضباط وهو يقوم بمعالجة صرف الأمطار بنفسه، وهو موقف لا يُحمد للجيش بل يُحذَّر منه، وأعادت تلك الحادثة للأذهان صورة إنهاك جماعة الإخوان لأفرادها في تحمّل كل إشكالات الدولة حتى لا يبدو الرئيس في صورة سيئة، وهو نفس منطلق ذلك السلوك من قِبل الجيش، وتبعاته على الجماعة تمثلت في عدم التفاتها لوظيفتها الأساسية وانشغالها بالقيام بدور أجهزة الدولة بدلا من تطويرها لتقوم بمهمتها الموكلة إليها، وكذلك تم إنهاك الأفراد تماما في تلك الأعمال مما سبّب تذمرا ضد القيادات التي تحركهم ولا تحرك الدولة التي يحكمها رئيسا منهم، وأخيرا شعور الكثيرين بالسخط على ذلك الشعب "المتبلد الكسول الذي لا يعمل وهم يكدّون لأجله، وتنكّره للخير الذي بذلوه لهم عقب الانقلاب على حكمهم" فنتج لدى الأفراد شعور بالاستعلاء على المجتمع وقت السلطة وسخط وكراهية عقب الإقصاء منها، وكذلك تعاظم لدى أفراد المؤسسة العسكرية نفس الشعور الآن عقب الدور الذي تقوم به، وقد كان شعور التميز موجودا من قبل، فيتولّد من شعور الاستعلاء تغير في مفهوم المهنة الحامية إلى الراعية، ويتفكك دور المؤسسة ويتحلل بالتبعية.

يتبع..
0
التعليقات (0)

خبر عاجل