كتاب عربي 21

إشكالات ما بعد الاستبداد.. تفكك المؤسسات (3)

شريف أيمن
1300x600
1300x600
عقب التغيير القسري في يوليو 2013، لم تكتف المؤسسة الأقوى بالدولة بتدخلها السياسي والاقتصادي -كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مقاليْن سابقيْن- بل تم إقحامها في أدوار الأدوات، والانخراط في دور الأداة أخطر ما يصيب ركن مؤسسات الدولة في علاقتها بالحاضنة الشعبية لها، وهو ما فعله قادة تلك المؤسسة، لا بمجرد اعتلاء السلطة، بل بوظائف أمنية وقضائية وإعلامية وتموينية أيضا، فلم تعد حاكمة فقط، بل هي في مقام الحكم والأداة معا، ومعلوم مدى السخط الشعبي الذي يلحق بالأدوات في الدول النامية اقتصاديا والقمعية سياسيا.

احتاجت المؤسسة لتفعيل جهازها المعلوماتي في المشهد الداخلي، وهو ما تم بصورة واسعة حتى طغى دوره -فيما يبدو- على الجهازين المعلوماتييْن الداخلي والسيادي، وتدخُل ذلك الجهاز أخذ صور الاستقصاء والتحقيق وكذلك الاعتقال، وأحيانا قام ببث أشرطة لاعترافات محتجزين لديه في تهم ساذجة، ما يؤثر على مصداقيته لدى قطاعات بالمجتمع، وبالتبعية تنتقل الآثار للمؤسسة التي يتبعها ذلك الجهاز، في حين إن الجهاز السيادي المعلوماتي الآخر احتفظ بمساحة فاصلة -في العلن على الأقل- بينه وبين المشهد الداخلي بصورة تدعو لاحترام ذلك التوجه الذي يحفظ المؤسسة من جهة، وهيبتها من جهة أخرى.

ويقوم قضاء تلك المؤسسة بإمساك طرف الخيط الواهي من أجهزة المعلومات، لينسج عليه أحكاما شديدة القسوة، في ظل غياب كامل لأسس العدالة وحقوق التقاضي، ولا أدلّ على ذلك من واقعة الطفل الذي حُكم عليه بخمسة وعشرين عاما وهو لم يتجاوز ثلاثة أعوام ونصف، في قضية بدأت أحداثها وهو ابن عام ونصف العام، ما يثير كذلك الكثير من التساؤل عن الحالة بسيناء، فإذا كانت أحكام القضاء تصدر بتلك الصورة، فكيف بالأحكام الخارجة عن نطاق القضاء، وربما السيطرة أساسا من قتل وهدم للبيوت والاعتقال.

وفي مقابل ذلك، يقوم القسم المعني بالحالة المعنوية لأفراد تلك المؤسسة الهامة بالتوجيه الإعلامي "المدني" بخلاف دوره الأساسي بمؤسسته، وينشر فيديوهات متنوعة على القنوات المصرية الخاصة والعامة عن الحالة المصرية تحمل شعار ذلك القسم، رغم ما تحمله تلك المقاطع المصورة من ركاكة في الإخراج والحبكة أو الرسالة المراد توصيلها، وتطور التوجيه لنشاهد سيارات لتلك المؤسسة تسير وعليها مكبرات صوت تذيع الأغاني؛ لحث المواطنين على المشاركة في الانتخابات البرلمانية، في مشهد لا يحتاج لتعليق إطلاقا لشدة سخافته وابتذاله وإهانته للمؤسسة الصارمة.

ثم احتاجت المؤسسة لاكتساب أرضية أخرى من الرضا الشعبي؛ بتقديم منتجات غذائية باسمها، لا باسم الدولة عن طريق وزارة التموين، بحجة خفض الأسعار وضبط السوق، وهو الأمر الذي لم يتحقق في الواقع، وكذلك دخلت في ملف الصحة لا من الجانب العلاجي فحسب، بل حاولت الدخول في شق الاختراعات التي ينشأ عنها طفرة طبية وثورة في عالم العلاج، ودخلت بالفعل ذلك الشق لكن من جهة الفضائح للأسف لا من جهة تحقيق الطفرة.

كل تلك الأدوار احتاجتها المؤسسة الوطنية الأقوى لاستتباب الوضع الداخلي، عقب انصراف جزء غير قليل من همّها وعقيدتها عن الخارج وتوجهه للداخل، فنتج عن تصدير فكرة قدرة المؤسسة على علاج كل الملفات، أن المجتمع أصبح يأمل منها ويطالبها بحل كل الأزمات، بدءا من المخاطر الخارجية، مرورا بأزمات الأسعار والمرتبات والحالة الصحية وكوارث الطبيعة كالسيول بخلاف التعقيدات السياسية المطالَبة أيضا بحلها، كما أن الهيئات بالدولة تابعة للرئيس الخارج من تلك المؤسسة، واختياره لم يكن لقدراته الشخصية، بل تعلق بزيّه الرسمي، وكل التبعات ينقلها هو لكل أصحاب ذلك الزي، وهيئاته ومؤسساته التي شكّلها يبدو منها الضعف والخوار، حتى المنتخبة منها كالبرلمان، وتلك الآمال المعلقة على المؤسسة الأبرز بالدولة إذا تبخرت فستتبخر معها عمليات الدعم الممنوحة لها من المجتمع.

تبقى الإشارة إلى أمرين في ختام الحديث عن أقوى المؤسسات الوطنية: أولهما أن الأدوار التي تقوم بها جعلت مساحة إرخاء حبال الصرامة التي تستدعيها تقاليد تلك المؤسسات واسعة، كما جعلت سلوكيات أفرادها المنافية للقانون أمرا لا يقبل المساس، فبمجرد رؤية سيارات لا تحمل لوحات ترخيصها ينصرف الذهن لسلطة صاحبها، وكذلك تجاوز السرعات المقررة، وربما حتى عدم وجود تراخيص للسيارات، فيكفي إخراج بطاقة التعريف أو ارتداء الزي الرسمي ليتجاوز صاحب المركبة المخالفات القانونية، وهو أحد أبواب الفساد في السلوك من جهة، وفي الوقائع القانونية من جهة أخرى، فربما ينحرف أحد أفراد الأجهزة التي لا يستوقفها أحد، فيتّجر في ممنوع قانوني دون ضبطه، إلا إن تم ترتيب الإجراءات القانونية المتعلقة بحالته مسبقا.

الأمر الثاني، أن الحديث عن تلك الأمور على مدار الحلقات الثلاث ليس لإبراز السلبيات بغرض الطعن والتجريح والانتقاص، بل غاية الحديث عن السلوك المعوَجّ التقويمُ والإصلاح، وتنزيه المؤسسات الوطنية عن مستنقعات السياسة ودهاليزها، فالمجتمع يحتاج لعصمة المؤسسات عن الخلاف، وارتفاعها عن المصلحة الشخصية، فتتعاقب الأنظمة الحاكمة على الوطن دون المساس به، وتزول الأنظمة وتتغير ولا يزول الوطن أو تتغير انحيازاته الطبيعية، كما أن الحفاظ على تلك المؤسسة الهامة من التفكك حفاظ على الوطن من التمزق.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل