هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم تشهد الحياة السياسية في الولايات المتحدة، على مدى تاريخها الطويل، مقدارا من البذاءة والابتذال يماثل ما يتحفها به اليوم رجل الأعمال الساعي للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية، دونالد ترامب. وإذا كان التشكي منه أصبح الكفاف اليومي للطبقة السياسية والشرائح المثقفة، فإن زخم حملته الانتخابية لا يبدو متأثرا بسيل الانتقادات التي توجّه إليه.
وعلى أهمية العوامل التي ساهمت في إبراز ظاهرة ترامب، من التصدعات داخل الحزب الجمهوري إلى أزمة العلاقة بين المواطن والنظام السياسي، وصولا إلى ما هو أدنى، مثل الشهرة وغياب البدائل، فإن الشغل الشاغل للوسط السياسي اليوم ليس في تبيّن ما حدث، بل في اعتراض ما قد يحدث. فحصول ترامب على الترشيح الحزبي يشكّل كارثة للجمهوريين قد تؤدي إلى انفراط عقد الحزب نفسه، أما وصوله إلى الرئاسة، برأي أصحاب الاعتبار، فيمثّل نكبة للولايات المتحدة، بأشكال وعواقب لا يمكن استشفاف إلا بعضها.
وعلى رغم هذه الخشية التي لها بالتأكيد ما يبررها، فإن السبيل الناجع للتصدي لتقدم ترامب المتواصل لم يظهر بعد. وإذا استمرت الأحوال على ما هي عليه، فإن تشكّله قد لا يتحقق قبل فوات الأوان.
فابتداء، لا تزال الطبقة السياسية والأوساط الإعلامية خجولة في عرضها واستعراضها لما يقدم عليه ترامب. ففي ازدراء سافر للحقوق الدستورية، توعّد هذا الرجل بالتضييق على الإعلام الناقد له وتكبيله بالقضاء، ودعا إلى ضرب المتظاهرين المعارضين له ضربا مبرحا فيما هو يغدق الشتائم عليهم. بل تعهّد تغطية كلفة الدفاع عمّن يتعرض للتوقيف من أتباعه نتيجة ذلك. وفي أفعال تنصبّ جهارا في خانة التهريج، استهزأ بحركات صبيانية من الإعاقة التي يعاني منها صحافي توجه إليه بالنقد، وحطّ من قدر سيدة تنافسه في السعي لنيل الترشيح الحزبي بالاعتراض على قباحة وجهها، وانحدر في كلامه إلى وصف الحيض والمفاخرة بما لا تسمح اللياقة بذكره.
ومع اقتصار أوساط الإعلام والسياسة في شكل عام على التعامل الوقائعي مع هذه التجاوزات، ترسخّت حالة من التطبيع إزاءها. والواقع أن إنتاج ترامب من الأقوال والأفعال الجديرة بالاستهجان يجعل إمكانية معالجتها بالاعتراض المناسب أمرا شاقا ويضع المتابعة أمام خيارين، إما الإسقاط والتجاهل، أو التطبيع. فالقيمة الاستقطابية بالنسبة إلى المؤسسات الإعلامية، والأمل بالتوظيف السياسي من قبل الخصوم، جعلا التطبيع الخيار الأمثل.
ثم إن من يتكلم يعرّض نفسه للإهانة. فهذا ميت رومني، المرشح الرئاسي الجمهوري السابق، حاول في كلمة مرتفعة النبرة في النقد، ولكن ملتزمة بالرصانة والأدب، التنبيه إلى خطورة مسلك ترامب، فما كان من هذا الأخير إلا أن انهال عليه بالتهكم والطعن برجل فاشل يستميت للعودة إلى الأضواء. فترامب لا يتعرّض للمضمون، ولا يبدو قادرا على أن يتقدم بطرح يتجاوز أنصاف الأفكار السطحية في أي موضوع. بل يتخبط ويتناقض ويخرج عن الموضوع في كل سؤال، ليعود إلى حديثه المفضّل وهو التبجح بقدراته هو وعظمته هو وذكائه هو، بما يثير الشفقة عليه وعلى القعر الذي هوت إليه الحياة السياسية في الولايات المتحدة.
والواقع أن ترامب ظاهرة إعلامية وسياسية، وليس ظاهرة فكرية وشعبية. فالمسألة ليست «غضبا أبيض» أو كراهية للمسلمين، أو نفورا من المكسيكيين وغيرهم. طبعا، ترامب يستجدي هذه المشاعر، ولكنها، وإن وجدت فعلا، لا تحرّك القاعدة الناخبة كما قد يُتوهم من خلال إسقاط أحوال مجتمعات أخرى على الولايات المتحدة. والأوساط المؤيدة لترامب لا تزيد على ثلث الجمهوريين إلا قليلا، لكن حملته تستفيد من ارتباك الإعلام وشغفه بالإثارة لمضاعفة الحضور، ومن الطبيعة المتشعبة للنظام الانتخابي لتحقيق الفوز والاختراق. وتعويل القائمين على هذه الحملة هو الاستمرار في هذا النهج، المدعوم طبعا بزخم ترامب في "التشبيح والبلطجة" لتحقيق الفوز الرئاسي.
فمع غياب الفكر والطرح المتجانس لديه، لا جدوى من مواجهته بالفكر البديل. وفي حال نال ترامب الترشيح الحزبي، يمكن توقع مناظرات أقرب إلى الخيال بين هيلاري كلينتون، ذات المضمون الصلب والأداء الرتيب بل المنفّر، ودونالد ترامب المستعيض عن فراغه من المضمون بالاستعراضيات و "التشبيح". فالرابح في صراع كهذا ليس محسوما. بل قد تنقسم القاعدة الناخبة في الولايات المتحدة بين من يرضى بأي كان إلا هيلاري، ومن يرضى بأي كان إلا ترامب، فتصبح المفاضلة بين سلبيتين من دون أن يكون القطع مسبقا بخسارة أي منهما.
فالسبيل الوحيد المتاح لوضع حد لهذه الظاهرة الطفيلية هو الإطار الإجرائي الحزبي، من خلال منع ترامب من الاستفادة من التجاذبات داخل الحزب الجمهوري لاختطاف الترشيح، ومن ثم إيجاد المرشح المقنع في المؤتمر الحزبي. فترامب اليوم جمع من أصوات المندوبين في الولايات التي أجريت فيها للتوّ الانتخابات التمهيدية ما يتجاوز النصف المطلوب للحصول على الترشيح التلقائي. إلا أنه لا يزال يحتاج إلى سلسلة متواصلة من الانتصارات في انتخابات الولايات المتبقية، وهو قادر على افتراض الفوز فيها ما استمر خصماه المتبقيان في تقاسم أصوات من يعترض عليه. وللتبسيط، فإن حصة ترامب من القاعدة الناخبة الجمهورية تجاور الأربعين في المئة. ولكن طالما استمر تيد كروز وجون كاسيك بالتنازع على الستين في المئة المتبقية، فإن احتمال حصوله على المرتبة الأولى يبقى مرتفعا، ومعظم الولايات المتبقية تعتمد صيغة «الفائز ينال كل أصوات المندوبين». فالمرتبة الأولى وإن بأقلية شعبية هي فوز حاسم.
فالسبيل إلى وقف ترامب هو التنسيق بين كروز وكاسيك، انطلاقا من القناعة بأن التضاد بينهما يضمن لهما الخسارة ولترامب الفوز، فإذا نجح كاسيك في حرمانه من بعض ولايات الشمال الشرقي (بنسلفانيا ونيويورك وغيرهما)، واعترضه كروز في الغرب الأوسط، فقد يعجز ترامب عن الحصول على الترشيح التلقائي.
إلا أنه، على جهله المركّب بالشأن العام، يبقى مفاوضا محنّكا، ولا يستبعد بالتالي أن يعمد بدوره إلى محاولة استقطاب أحد هذين الخصمين لتبديد احتمال تلاقيهما. على أي حال، ليست هذه أجمل أيام السياسة في الولايات المتحدة، ويبدو أن المقبل أكثر شقاء وشقاوة.
عن صحيفة الحياة اللندنية
وعلى أهمية العوامل التي ساهمت في إبراز ظاهرة ترامب، من التصدعات داخل الحزب الجمهوري إلى أزمة العلاقة بين المواطن والنظام السياسي، وصولا إلى ما هو أدنى، مثل الشهرة وغياب البدائل، فإن الشغل الشاغل للوسط السياسي اليوم ليس في تبيّن ما حدث، بل في اعتراض ما قد يحدث. فحصول ترامب على الترشيح الحزبي يشكّل كارثة للجمهوريين قد تؤدي إلى انفراط عقد الحزب نفسه، أما وصوله إلى الرئاسة، برأي أصحاب الاعتبار، فيمثّل نكبة للولايات المتحدة، بأشكال وعواقب لا يمكن استشفاف إلا بعضها.
وعلى رغم هذه الخشية التي لها بالتأكيد ما يبررها، فإن السبيل الناجع للتصدي لتقدم ترامب المتواصل لم يظهر بعد. وإذا استمرت الأحوال على ما هي عليه، فإن تشكّله قد لا يتحقق قبل فوات الأوان.
فابتداء، لا تزال الطبقة السياسية والأوساط الإعلامية خجولة في عرضها واستعراضها لما يقدم عليه ترامب. ففي ازدراء سافر للحقوق الدستورية، توعّد هذا الرجل بالتضييق على الإعلام الناقد له وتكبيله بالقضاء، ودعا إلى ضرب المتظاهرين المعارضين له ضربا مبرحا فيما هو يغدق الشتائم عليهم. بل تعهّد تغطية كلفة الدفاع عمّن يتعرض للتوقيف من أتباعه نتيجة ذلك. وفي أفعال تنصبّ جهارا في خانة التهريج، استهزأ بحركات صبيانية من الإعاقة التي يعاني منها صحافي توجه إليه بالنقد، وحطّ من قدر سيدة تنافسه في السعي لنيل الترشيح الحزبي بالاعتراض على قباحة وجهها، وانحدر في كلامه إلى وصف الحيض والمفاخرة بما لا تسمح اللياقة بذكره.
ومع اقتصار أوساط الإعلام والسياسة في شكل عام على التعامل الوقائعي مع هذه التجاوزات، ترسخّت حالة من التطبيع إزاءها. والواقع أن إنتاج ترامب من الأقوال والأفعال الجديرة بالاستهجان يجعل إمكانية معالجتها بالاعتراض المناسب أمرا شاقا ويضع المتابعة أمام خيارين، إما الإسقاط والتجاهل، أو التطبيع. فالقيمة الاستقطابية بالنسبة إلى المؤسسات الإعلامية، والأمل بالتوظيف السياسي من قبل الخصوم، جعلا التطبيع الخيار الأمثل.
ثم إن من يتكلم يعرّض نفسه للإهانة. فهذا ميت رومني، المرشح الرئاسي الجمهوري السابق، حاول في كلمة مرتفعة النبرة في النقد، ولكن ملتزمة بالرصانة والأدب، التنبيه إلى خطورة مسلك ترامب، فما كان من هذا الأخير إلا أن انهال عليه بالتهكم والطعن برجل فاشل يستميت للعودة إلى الأضواء. فترامب لا يتعرّض للمضمون، ولا يبدو قادرا على أن يتقدم بطرح يتجاوز أنصاف الأفكار السطحية في أي موضوع. بل يتخبط ويتناقض ويخرج عن الموضوع في كل سؤال، ليعود إلى حديثه المفضّل وهو التبجح بقدراته هو وعظمته هو وذكائه هو، بما يثير الشفقة عليه وعلى القعر الذي هوت إليه الحياة السياسية في الولايات المتحدة.
والواقع أن ترامب ظاهرة إعلامية وسياسية، وليس ظاهرة فكرية وشعبية. فالمسألة ليست «غضبا أبيض» أو كراهية للمسلمين، أو نفورا من المكسيكيين وغيرهم. طبعا، ترامب يستجدي هذه المشاعر، ولكنها، وإن وجدت فعلا، لا تحرّك القاعدة الناخبة كما قد يُتوهم من خلال إسقاط أحوال مجتمعات أخرى على الولايات المتحدة. والأوساط المؤيدة لترامب لا تزيد على ثلث الجمهوريين إلا قليلا، لكن حملته تستفيد من ارتباك الإعلام وشغفه بالإثارة لمضاعفة الحضور، ومن الطبيعة المتشعبة للنظام الانتخابي لتحقيق الفوز والاختراق. وتعويل القائمين على هذه الحملة هو الاستمرار في هذا النهج، المدعوم طبعا بزخم ترامب في "التشبيح والبلطجة" لتحقيق الفوز الرئاسي.
فمع غياب الفكر والطرح المتجانس لديه، لا جدوى من مواجهته بالفكر البديل. وفي حال نال ترامب الترشيح الحزبي، يمكن توقع مناظرات أقرب إلى الخيال بين هيلاري كلينتون، ذات المضمون الصلب والأداء الرتيب بل المنفّر، ودونالد ترامب المستعيض عن فراغه من المضمون بالاستعراضيات و "التشبيح". فالرابح في صراع كهذا ليس محسوما. بل قد تنقسم القاعدة الناخبة في الولايات المتحدة بين من يرضى بأي كان إلا هيلاري، ومن يرضى بأي كان إلا ترامب، فتصبح المفاضلة بين سلبيتين من دون أن يكون القطع مسبقا بخسارة أي منهما.
فالسبيل الوحيد المتاح لوضع حد لهذه الظاهرة الطفيلية هو الإطار الإجرائي الحزبي، من خلال منع ترامب من الاستفادة من التجاذبات داخل الحزب الجمهوري لاختطاف الترشيح، ومن ثم إيجاد المرشح المقنع في المؤتمر الحزبي. فترامب اليوم جمع من أصوات المندوبين في الولايات التي أجريت فيها للتوّ الانتخابات التمهيدية ما يتجاوز النصف المطلوب للحصول على الترشيح التلقائي. إلا أنه لا يزال يحتاج إلى سلسلة متواصلة من الانتصارات في انتخابات الولايات المتبقية، وهو قادر على افتراض الفوز فيها ما استمر خصماه المتبقيان في تقاسم أصوات من يعترض عليه. وللتبسيط، فإن حصة ترامب من القاعدة الناخبة الجمهورية تجاور الأربعين في المئة. ولكن طالما استمر تيد كروز وجون كاسيك بالتنازع على الستين في المئة المتبقية، فإن احتمال حصوله على المرتبة الأولى يبقى مرتفعا، ومعظم الولايات المتبقية تعتمد صيغة «الفائز ينال كل أصوات المندوبين». فالمرتبة الأولى وإن بأقلية شعبية هي فوز حاسم.
فالسبيل إلى وقف ترامب هو التنسيق بين كروز وكاسيك، انطلاقا من القناعة بأن التضاد بينهما يضمن لهما الخسارة ولترامب الفوز، فإذا نجح كاسيك في حرمانه من بعض ولايات الشمال الشرقي (بنسلفانيا ونيويورك وغيرهما)، واعترضه كروز في الغرب الأوسط، فقد يعجز ترامب عن الحصول على الترشيح التلقائي.
إلا أنه، على جهله المركّب بالشأن العام، يبقى مفاوضا محنّكا، ولا يستبعد بالتالي أن يعمد بدوره إلى محاولة استقطاب أحد هذين الخصمين لتبديد احتمال تلاقيهما. على أي حال، ليست هذه أجمل أيام السياسة في الولايات المتحدة، ويبدو أن المقبل أكثر شقاء وشقاوة.
عن صحيفة الحياة اللندنية
0