ففي وثائقي أجنبي يجوب أحد الصحفيين صحراء الجزيرة العربية ثم يولي وجهه شطر إسطنبول والقدس في رحلة بحث عن حقيقة نبوة محمد، ويسأل الصحفي عما إذا كان هناك حقا شخص اسمه محمد، وهل وقائع السيرة التي يتداولها العرب تمثل أحداثا تاريخية حقيقية، أم إن محمدا مجرد أسطورة اختلقها العرب ثم بنوا عليها إمبراطورية اكتسحت العالم في القرن السابع الميلادي؟
ينطلق هذا السؤال من فرضية أن تفنيد الرواية التاريخية سيبنى عليه تفنيد بناء الإسلام من جذوره، لكن هل يبدو الأمر كذلك فعلا؟ بمعنى أننا لو تماشينا مع هذه الشبهة بغرض التحقيق العلمي واتفقنا مع الصحفي تجاوزا أننا لا نملك إثباتا تاريخيا كافيا لحقيقة شخص محمد فضلا عن نبوته هل سيؤدي ذلك بالضرورة إلى نتيجة مفادها أن كل الرواية الدينية باطلة وأن الإسلام مجرد وهم كبير اعتنقه مئات ملايين البشر وظلوا أسارى لهذا الوهم أربعة عشر قرنا.
هل
القرآن وثيقة تاريخية ننقب عن جذورها في كهوف الماضي وآثار الأقدمين أم أنه روح متجددة لها فاعليتها الحاضرة ودليلها الذاتي الذي يغنينا عن الحاجة إلى قرائن خارجية؟
دعونا نبسط المعنى: لو جاء صديق لأحد المغتربين وقال له: لقد قابلني والدك وهو يحثك على الاعتناء بنفسك، هل سيقول له: أريد دليلا ماديا ملموسا بأن والدي قال هذا الكلام فعلا! إن المحتوى الموضوعي للكلام يحمل روح الاهتمام الأبوي فيه، كان سيصح طلب القرينة الخارجية لو كانت الرسالة على النحو الآتي: لقد قابلني والدك وهو يأمرك أن تعطيني مالا.
لا أقصد إهمال البحث التاريخي، فما دمنا نتحدث عن دين نؤمن بحقيقته فهذا يعني أن كل الأدلة وكل الأبواب ستقود إلى نتائج في صالحه: "فأينما تولوا فثم وجه الله"، لكن ما أقصده أن هناك مدخلا أوسع وأكثر تحقيقا للطمأنينة من مدخل البحث التاريخي، لأن إثبات الصحة التاريخية يمنحنا معرفة وحسب، لكن الاتصال الروحي بمضمون القرآن يمنحنا إيمانا حيا وطمأنينة ويقينا.
لنفترض أن بين أيدينا كتابا مجهول المصدر، لا ندري شيئا عن تاريخ كتابته وعن مؤلفه، لكن بين أيدينا محتواه الموضوعي الذي يتيح لنا تحليل مضامينه التعرف على أفكار كاتبه.
حين نبدأ بتقليب صفحات هذا الكتاب نجده يخاطبنا بمبادئ أخلاقية تتعالى على الأهواء البشرية: "كونوا قوامين لله شهداء بالقسط"، "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا"، "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، "اعدلوا هو أقرب للتقوى"، "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم"، " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله"، "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"، "وقولوا للناس حسناً"، "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، "و الله لا يحب الفساد"، "والله لا يحب الظالمين"، نجده يوصينا بالوالدين إحسانا وبذي القربى وبالجار وبالفقير والمسكين وبالعفو عمن أساء إلينا، نجد في هذا الكتاب رفعا لمستوى الرقابة الذاتية كما لا نجده في أي كتاب آخر: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً"، "إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء"، "يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله"، "وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً".
قد يتسلل إلينا خاطر بأن مؤلف هذا الكتاب قصد به رفعة قومه وإنشاء امبراطورية يعلي فيها رايتهم لكن هذا الكتاب يواجهنا باتجاه مناقض لهذا الاحتمال فهو يقول لنا صراحةً: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ويقول: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"، ويؤكد على مبدأ المساواة الإنسانية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ"، و يؤكد على مبدأ العدل في الحكم على أساس إنساني: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، ويدعو إلى رابطة إنسانية على أساس المساواة فلا يعلو بشر على بشر: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله".
يتسلل إلينا خاطر آخر، قد يكون هذا الكتاب من تأليف قائد حربي اسمه محمد لتصفية حساباته في معاركه العسكرية والثأر من أعدائه، فنجد مرة أخرى اتجاها مناقضا لهذا الاحتمال: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، "ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، إننا نجد القتال حقا في هذا الكتاب، لكننا نجده لخدمة غاية أخلاقية هي أبعد ما تكون عن الأهواء البشرية والعصبيات القومية: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا" إن القتال المتضمن في هذا الكتاب يبدو أقرب إلى تشكيل تحالف إنساني ضد الجماعات التي تمارس الظلم وانتهاك حقوق الإنسان.
ولكن ما الذي يضمن لنا ألا يكون هذا الكتاب حيلة من محمد لينال زعامة ومجدا؟ إن من يؤلف كتابا سيستعمله لإضفاء شرعية على سياساته ومواقفه، لكننا نجد مئات الآيات تعاكس هوى محمد وآرائه.
في هذا الكتاب عتاب مشدد لمحمد وانتصار لأعمى ضعيف في نحو عشر آيات، أي إنسان يطيق كل هذا القدر من الشفافية الأخلاقية! في هذا الكتاب أيضا عتاب لمحمد وتصديق ليهودي لا يؤمن بالقرآن اتهم بهتانا وافتراء بالسرقة في المدينة: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً"، في هذا الكتاب معالجة لخطرات محمد السرية التي يخجل أحدنا من الجهر بها أمام الناس: "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ"، في هذا الكتاب تهديد ووعيد لمحمد إن حاد عن طريق الهدى والحق: "لئن أشركت ليحبطن عملك"، "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير"، "إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً"، في هذا الكتاب مقاومة لأي محاولة لأسطرة شخص محمد وحرص على إبقائه في حدود بشريته الطبيعية: "قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين"، "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ"، "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً"، "ليس لك من الأمر شيء".
لا نجد في هذا الكتاب تمجيداً لمحمد، بل تمجيداً لله الذي يعلن صراحةً بأنه منزل هذا الكتاب ويضفي على ذاته صفات الرحمة والقدرة والعلم والإحاطة والسمع والبصر وكل صفات الكمال والجلال ويخاطب عباده أن يؤمنوا به ويخافوه ويستعدوا للقائه، فأي مبرر لئلا نصدق أن الله فعلاً هو الذي يخاطبنا في هذا الكتاب وهو يعلن عن نفسه صراحةً فيه، وتؤكد آياته المتعالية على النقص والهوى البشري حقيقته الإلهية.
إن هذا الكتاب لا يمنح محمدا ميزات خاصة بل يفرض عليه تكاليف مضاعفة: "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً"، "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا"، "فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت"، وإذا كانت هناك خشية محتملة من استغلال المبادئ في سبيل تحقيق حظوظ دنيوية فإن هذا الكتاب يقطع الطريق أمام أي شبهة تربح دنيوي: "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم".
حين تريد إثبات فكرة فهناك طريقان لفعل ذلك: إما أن تثبتها موضوعيا بتفكيك بنيتها الذاتية، وإما أن تبحث عن قرائن خارجية تؤكد بها صحة الفكرة، والطريقة الأولى أقوى بلا شك وهي الطريقة التي تناسب عصر العلم لأنها تعتمد على التحليل الذاتي والاستنتاج المنطقي، وهي الطريقة التي اعتمدها القرآن، فأمام سيل المطالب المادية لمشركي قريش كأن ينزل عليهم كتاباً في قرطاس أو يفجر لهم من الأرض ينبوعاً أو يكون له جنة فيفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو يسقط عليهم من السماء كسفاً، لم يكن القرآن يستجيب لهذه المطالب إنما كان يحيلهم إلى العقل وإلى تدبر القرآن: "أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم"، "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"، " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله".
إن الإيمان بالقرآن يبدو صفقة رابحة لا يترتب عليها احتمال للخسارة، فهذا الكتاب فضلا عن مبادئه الأخلاقية والسكينة الروحية التي يحققها فهو أيضاً لا يبني إرثه على أنقاض أي شريعة أو كتاب سماوي سابق أو مبدأ عدل أرضي، بل إنه يقدم صيغة ائتلافية تضم خلاصة الهدى والخير والحق في كل الرسالات السماوية مصدقاً ومهيمناً، وهو يعترف بكل شريعة وكل كتاب يحقق الخير للبشر: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير".
لقد عرفت القرآن ليس لأني عاصرت زمن تنزله من السماء، إنما عرفته بالعدل الذي فيه، عرفت القرآن بالسكينة والطمأنينة والسلام التي يسكبها على القلوب، عرفت القرآن لأنه يأمر بكل خير وعدل وإحسان ومعروف و ينهى عن كل فساد وبغي وظلم وفحشاء، فكيف يستقيم أن يلح كتاب مفترى ومختلق من شخص كاذب كل هذا الإلحاح على العدل والصدق والرحمة والإحسان.
إن لم يكن الخير والعدل طريقاً نعرف الله به فأي طريق يصح أن نسلكه بعد ذلك: "قل فائتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين".