توسّع الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني الأسبوع الماضي في تعظيم محاسن الاعتدال. حدّث شعبه أنّ السياسات المعتدلة تصبّ في مصلحته وتجني له ما يستحقّ من استقرار واقتصاد منتج وعلاقات طبيعية مع عالم لا تستطيع إيران الاستغناء عنه.
نطق روحاني حقّا. لكن ثمّة مشكلة تحول دون تلقّف حديثه استدارة مبشرة في السياسات العدائيّة التدخليّة التي تسهم في إبقاء نيران التوتّر في المنطقة متقّدة. الاعتدال الذي يروّج له روحاني يصبّ حصرا في اتجاه الغرب من أجل الاستفادة من الفرص التي هيّأها الاتفاق النووي. فهو يريد اعتدالا في التعامل مع الدول الغربيّة من أجل ضمان تدفّق التجارة والاستثمار. لكن لا شيء في حديثه أو في سياساته يشي بأنّه يريد تبنّي الاعتدال ذاته في علاقاته مع محيطه العربي.
الاعتدال الذي ينشده الرئيس الإيراني هو اعتدال جزئيّ انتقائيّ. مردّه الحسابات البراغماتيّة التي تحاول الاستفادة من اندلاق الغرب على بلاده، واقتناعه أنّ أحدا في واشنطن أو أوروبا سيضع وقف العبث الإيرانيّ في أمن المنطقة شرطا لتجديد العلاقات الاقتصاديّة.
في هذا السياق تتحرّك إيران اليوم. انفتاح اقتصاديّ على الغرب وتشدّد سياسيّ فوقيّ في التعامل مع قضايا الإقليم. لم يكن ذاك متاحا في السابق حين كان البرنامج النوويّ عثرة. لكنّ طهران تظنّ أنّ انطواء واشنطن وحرصها حماية الصفقة النوويّة، وحاجة الاقتصادات الأوروبية إلى المليارات الإيرانية تتيح ذلك الآن.
كيف بغير ذلك يمكن تفسير دعوة روحاني في الوقت الذي ترسل فيه بلاده المزيد من جنودها إلى سورية، وتستمر في تمويل العبث ودعم الفوضى ومحاولة فرض هيمنتها في أكثر من دولة عربيّة؟
ستنجح طهران مرحليّا في تبنّي هذين التوجّهين المتناقضين. ستوقّع العقود وتتبادل التجارة مع الغرب. وستظلّ على عبثيّتها في تعاملها مع العرب. الحاجة دفعتها إلى توقيع الصفقة النوويّة وإلى تغيير منهجيّة تعاملها مع أميركا وأوروبا. لا وجود لحاجة أو ضغط أو رادع يدفعها لإحداث التغيير ذاته في علاقاتها مع العرب. حتّى الآن.
لكنّ الأمور تتغيّر. بدأت السعودية تتحرّك بفاعلية أكثر. وثمّة جهود عربية لبناء استراتيجيات جديدة سترفع كلفة التوسعيّة الإيرانيّة في المنطقة. لن يقوم العرب بالردّ على تدخّل طهران في بلادهم بتدخل مماثل في إيران. لكنّ استراتيجية جديدة قائمة على التنسيق والتعاون ستكون قادرة على كبح النفوذ الإيرانيّ في البلاد العربيّة وزيادة كلفته على طهران.
مكمن الخطر أنّ تغيّر الموازين الدولية لصالح إيران في الإقليم يضع المنطقة على حافة مواجهة لا تبدو محتملة الآن لكنّها ستحدث إن استمرّ الانغلاق في آفاق تحسين العلاقات العربيّة-الإيرانيّة وإن ظلّت إيران تهدّد أمن المنطقة واستقرارها. ما كان أحد يتوقّع تدخّلا عسكريّا في اليمن. غير أنّ ذلك حصل حين شعرت السعوديّة أنّ أمنها مهدّد. في إقليم لم يتوقّف أبدا عن توليد المفاجآت غير السارة، قد تطرأ ظروف تفرض مواجهة سعودية-إيرانية تُغرق المنطقة كلّها في الصراع.
بيد أنّه حتّى لو لم يحدث ذلك، فإنّ تصعيد التوتّر وحده كاف للإضرار بمصالح الجميع، وبمن فيهم إيران التي تحتاج الأمن والنموّ الاقتصادي ربّما أكثر من غيرها إن أرادت استيعاب الغضب الذي تولّده سياستها في مجتمعها.
أسباب هذا التوتّر مرتبطة بإيران وليس بالعرب. فإيران هي التي تتدخّل في سورية والعراق واليمن ولبنان، وتستفزّ الفتنة في السعوديّة والبحرين، وتبقي على احتلالها الجزر الإماراتيّة. لا يتدخل العرب في شؤون إيران وسيلة للردّ على عدائيّتها ولا يستغلّون هشاشة استقرارها، حتّى في أقاليم قابلة للتفجّر، مثل إقليم عربستان الذي يعاني أهله العرب التمييز والضغط والحرمان.
محقّ روحاني في حديثه حول فضائل الاعتدال. لكنّه مخطئ إن ظنّ أنّ الاعتدال نحو الغرب وسط التطرّف في التعامل مع العرب سيعود بالخير على إيران. مصلحة إيران في أن تكون سياساتها مبنية على الاعتدال وعلى احترام الآخر ومصالحه في محيطها القريب أيضا وأصلا. فهي جزء منه شاءت أم أبت. ولن تكون طهران محصنة من تبعات الفوضى والتوتّر اللذين تسهم سياساتها غير المعتدلة في إيجادهما.