يقول غوستاف لوبون في كتابه "روح الثورات والثورة الفرنسية": "في الغالب تتم الثورات الحقيقية التي يتوقف عليها مصير الأمم بالتدريج، وهذا ما يجعل المؤرخين يَلقوْن مصاعب في تعيين بدايتها؛ ولذلك نرى كلمة التطور أصح في التعبير عن المقصود من كلمة الثورة".
نستطيع لدى إسقاطنا عبارة "لوبون" على الحالة الثورية في
مصر، القول إن 25
يناير لم تكن وقفات احتجاجية بمطالب فئوية سرعان ما تنتهي بتحقُّق المطالب، لكنها كانت ثورة شعبية من طبيعتها الانطلاق الذاتي العشوائي الذي يكتسب مع الوقت شكلا منظما.
وطبيعة مثل هذه الثورات الشعبية أنها تتعرض لكبوات وفتور؛ بسبب الثورات المضادة، ومن ثَمّ قد تستمر على شكل موجات ثورية، وما حدث في جمعة الأرض هو بداية الموجة الثورية الثانية للثورة الأم.
الخبرات التراكمية للثوار عنصر تفوُّق لهذه الموجة، إضافة إلى أن تنوُّع تصنيفات النتائج الكارثية لحكم الانقلاب قد لامست بدورها قضايا مختلفة متنوعة بتنوع الأطياف الثورية على اختلاف مشاربها، ما بين تمكين للعلمانية، وكبت للحريات، وتدهور اقتصادي، والنزول إلى ما دون الحد الأدنى لدور إقليمي يعبر عن سمعة مصر وتاريخها، انتهاء بما يراه قطاع واسع من المصريين تفريطا في الأرض.
يُضاف إلى ذلك تغيُّر المزاج الدولي تجاه نظام السيسي، الذي صار بقاؤه محرجا للأنظمة الداعمة.
كما أن السياسة الخارجية لأمريكا بالشرق الأوسط -التي يمثل الأمن الإسرائيلي أبرز ركائزها-تتخوف من استمرار تقلُّبِ مصر على فوهة البركان، بما يؤثر حتما على أمن إسرائيل ومصالح أمريكا في المنطقة.
وقد تابعنا تصريحات المتحدث باسم البيت الأبيض "جوش إرنست" يوم الجمعة، خلال المؤتمر الصحفي اليومي، التي قال فيها إن بلاده تراقب الوضع في مصر بدقة، وأضاف أن الولايات المتحدة لديها علاقة أمنية مهمة مع مصر، ولكن أهمية تلك العلاقة لا تطغى على قلقها من بعض السياسات الخاصة بحقوق الإنسان التي تنتهجها الحكومة المصرية ضد المعارضين السياسيين.
وهو تصريح يعيد للأذهان الموقف الأمريكي المتدرج أيام الموجة الثورية الأولى في 25 يناير، مع الإشارة إلى أن استحضار الموقف الأمريكي لا يعني أن الانطلاقة الثورية ترتكز على المواقف الخارجية.
تنوّع الأطياف الثورية في جمعة الأرض كان العنصر الذي كسر حاجز الخوف وأكسب الحراك صمودا في مواجهة الآلة الأمنية، حيث إن النظام حاول إلباس التظاهرات الصبغة الإخوانية حتى يتمكن من الضرب في المليان، إلا أن نزول الأطياف الأخرى -التي قد تختلف مع الإخوان- من قوى ليبرالية ويسارية واشتراكية وثورية..، وبصفة أساسية، قد فوّت الفرصة على الأمن المصري الذي يمارس القمع في أبشع صوره بذريعة مواجهة الإرهاب.
وبالرغم من أن الدافع الثوري المعلن هو الاحتجاج على تسليم الجزيرتين للسعودية، إلا أن هيمنة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" و"ارحل"، على المظاهرات، هو تأكيد على علو سقف المطالب، لتشمل التغيير الكامل.
كل ما سبق ذكره يمثل عوامل متضافرة، تبشّر بأن الانقلاب يلفظ أنفاسه الأخيرة، غير أن هناك عدة محاذير ينبغي أخذها في الاعتبار، لعل أبرزها:
أولا: الموجة الثورية الثانية مُعرّضة -كما هو الحال في الموجة الأولى- إلى استدراجها، لكي تقبل بتغيير رأس النظام، فهل يعيد الثوار السيناريو ذاته ويتم إرجاء التطهير لما بعد اكتمال مؤسسات الدولة؟ أم أنه سيكون تطهيرا في سياق المد الثوري عن طريق محاكمات ثورية؟
ثانيا: الإخوان شاركوا هذه المرة بوضوح وعلنية في الجمعة الأولى للفعاليات، مع بقية الفصائل الثورية على مطالب محددة دون رفع شعارات حزبية، فهل تستمر المطالب المشتركة الجامعة للصف الثوري قائمة حتى النهاية، أم أنها ستصطدم في النهاية بالعامل الأيديولوجي؟
ثالثا: المؤسسة العسكرية التي يبدو أنها لم تعد ترحب بالسيسي، لو سلمنا بأنها ستقف على الحياد، فهل سترعى عملية انتقال ديموقراطي حقيقي، أم أن الجيش سيتمسك برفضه لحكم مدني؟
رابعا: هل ستقبل الأطياف الثورية بمخرجات العملية الديموقراطية أيا كانت نتائجها، حتى لو أعادت تيار الإسلام السياسي مرة أخرى إلى الحكم؟ أم أنها ستتمسك بصيغة استثنائية تُهدر الشكل الديموقراطي تحت مظلة الضرورة الواقعية؟ وفي المقابل، هل سيقبل تيار الإسلام السياسي بهذا الشكل المنقوص للديموقراطية؟
هذه وغيرها مسائل حتى الآن ليس لدي إجابة محددة عليها، وعقارب الساعة وحدها هي التي ستحسمها، فالثورة آتية لا محالة، وإنما الجدل يثار حول عبارة (وماذا بعد؟)، ماذا بعد الثورة؟ هل سيعي الثوار الأخطاء السابقة؟ أم ستدور الثورة في حلقة مفرغة؟
وبغض النظر عن ذلك، فإن هناك شبه توافق على أن يوم جمعة الأرض كان يحمل ذات الرائحة التي تسللت إلى الأنوف بنهاية يوم 25 يناير 2011، نسأل الله السلامة لمصر وأهلها.