لا يزرع الطاغية إلا الخوف والحزن، ويقتات الناس الخاضعون على ثمار ذلك الزرع، فيجري في شرايينهم، ويخيّل إليهم صور أبصارهم، حتى تستحيل سقوف بيوتهم حزنا، وجدرانها خوفا، لا يرونها كذلك بأبصارهم فحسب، ولكن بنفوسهم السارية في أبدانهم، فالطاغية يحاصر فيهم ألصق غرائزهم بهم، وأشدّها تركيبا في ذواتهم الآدمية، إنه يُذبِّحُ أبناءهم، بتشديد الباء، يُسرف في الذبح، قتلا على الحقيقة، أو سجنا، أو نفيا، أو محاصرة لآمال الأبناء وتطلعاتهم، طغيانا منه، وخشية من تلك الآمال، حتى إذا ما فلتت بذرة من أمل، وتجاوزت حصار الطاغية، وَجَدَتْ أول ما وَجَدَتْ الخوف والحزن أرضا خبيثة لا ينبت فيها زرع صالح.
وهكذا كان حال أمّ موسى، المرحلة الأولى في مسيرة صناعة عدوّ الطاغية، وهي امرأة؛ وللنساء دور لافت في إعداد عدوّ الطاغية، آية على لطف التدبير الإلهي في مواجهة علوّ
الطغاة، إنّهم مهما بلغوا من العلو وإحكام التدبير والبطش المهلك، فإن أمرهم أهون مما يبدو للنفوس المسحورة برهبة القوّة الفتّاكة. وهي أمّ، ألصق الخلق بابنها، وأشدّهم شفقة عليه، حتى إذا ما أوحى إليها ربها بمهمّتها، وَجَدَتْ نفسها في قلب الهواء الفاسد الذي خنق به الطاغية العباد، تكادُ تختنق خوفا وحُزْنا، خوفا على ابنها وحُزْنا لفراقه، وكم من امرأة قَبْلها، خطفوا ابنها، أو فرّ منهم، أو قتلوه، وهي في ذلك كله، خائفة حزينة؟! وكم من امرأة اليوم خطفوا ابنها، أو فرّ منهم، أو قتلوه، وهي في ذلك كله خائفة حزينة؟! أي شيء تغير في أفعال الطغاة؟! وماذا يصبّون على الناس سوى الخوف والحزن؟!
يردع الخوفُ النّاس، ويوهنهم الحزن، فإنّ ظلَّ الناس خائفين محزونين، ظلّوا عبيدا مسحوقين، وفسد ميزان الوجود، وانعدمت سنّة التدافع، ولا يستقيم الميزان، ولا تعمل سُنّة التدافع، إلا بالذين يجاهدون أنفسهم تحررا من الخوف والحزن، وهذا يلزمه يقين خاص، تنتجه العبودية الخالصة لله، فهي مجاهَدة قائمة لا تَكُفّ، ما استمرت المهمّة، "فلا تخشوهم واخشون"، "فلا تخشوا الناس واخشون"، "فلا تخافوهم وخافون"، "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".
وهذا الذي يتحرر من مخاوفه فلا تمنعه، وينهض من أحزانه فلا تقعده، يبدو مجنونا في قيامه وسط الهواء المنتن، في اختلافه عن العبيد الأذلاء، وضدّ الظلم المبين، من الطغاة الجبّارين، وما من رسول إلا ورُمي بالجنون، إذ إنّه يعاند الواقع المستحيل، "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون"، وموسى عدوّ الطاغية، كان أولى بهذا الوصف في وعي الطاغية، فذلّة قوم موسى، الغاية في الذلّ، وطغيان
فرعون، الغاية في الطغيان، "وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين * فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون".
ولما كان الأمر كذلك، وبعد أن أُوحي إلى أمّ موسى أن تحسن التدبير بإرضاعه، ثم بإلقائه في اليمّ، نُهيت عن الخوف والحزن، وبذلك بدأت حياة البذرة خارج الهواء الفاسد، مقذوفة في الماء بلا خوف ولا حزن، في أصعب ما يُلقى فيه طفل، وأشدّ ما يقع على نفس أمّ، وحيث تنعدم الأسباب، وينتفي الشرك، ويتمّ التوحيد، وكأن تابوت الطفل يسبح في الفراغ، وقد خلا العالم إلا منه ومن ربّه، فخرج الطفل مختلفا عن كل ما في العالم، وقد زاده ربُّه بسطة في الحريّة والمروءة والإحساس الوافر بالظلم الواقع على الناس، ومع ذلك ظلّ النهي عن الخوف ملازما لموسى، فقيل له "لا تخف" ثلاث مرات، وله ولأخيه مرة "لا تخافا"، ونُفي الخوف في حضرة المعجزة العظيمة: "لا تخاف"، وقيل لأمّه من قبل "لا تخافي".
وإذا كانت بداية المواجهة، مع الخوف والحزن، قبل أن تكون مع عين الطاغية، "وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين"، فإن العاقبة كلّها كانت حزنا للطاغية، فقد دبّر وأراد شيئا، فجُعل حزنه في إرادته وتدبيره "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحَزَنا إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين"، وقُرئت حَزَنا بفتح الحاء والزين لدى جمهور القراء، وحُزْنا بضم الحاء والزين لدى حمزة والكسائي وخلف، وقيل إن المعنى واحد ولكن الاختلاف اختلاف لغات، بيد أن ملاحظة الفراء جميلة: "وكأن الْحُزْن الاسمُ والْغَمّ وما أشبهه، وكأن الحَزَنَ مصدر"، فحقيقة حياة فرعون حزن، والحزن هو الدالّ على تقلبات أحواله.
وما أشبه حُمق المتفرعن الصغير اليوم، بحمق الفرعون الكبير قبل آلاف السنين، وقد رُوي أن فرعون الكبير رأى في منامه أن نارا من جهة بيت المقدس أحرقت دور مصر كلّها ولم تضرّ بني إسرائيل، فعُبّرت له بأن طفلا منهم يزيل ملكه، فأخذ في التدبير، ذبحا للأطفال، حتى التقط موسى، فدبّر، عسى أن ينفعه أو يتّخذه ولدا، فكان له عدوّا وحَزَنا، ورأى اليوم المتفرعن الصغير (السيسي) رؤى، أوّلها بأنه يصير رئيس مصر، فأتبعها بتدبير، ثم أخذ في الناس ذبحا، ثم بدا أنه محاصر بالحزن والحذر والخوف، وأن موسى موزّع في بعض من ناس مصر، كلما تحرروا أكثر من مخاوفهم وأحزانهم، كلما حاصروا المتفرعن الصغير بمخاوفه وأحزانه، حتى إذا جاء تمام القدر تجلّت سخريته من ذلك المخلوق البائس.