حكيت للشاب نوري، زميلي في السكن في حي أوسمان باشا، الحكاية التي ألحّ عليها فقلت: كان الباص الذي نحن فيه يا سبعي، منطلقا من حمص إلى الشام على الطريق القديم. أقلَّ أبو حلب سيدة مُدخِّنة على الطريق وهنا ابتسم نوري ابتسامة الأحلام الحمراء، وفرك يديه وهزَّ السرير جوانبه. عادة ما تتنظر بائعات الهوى على الطرقات الزبائن وهنَّ يدخنّ، والتدخين للنساء على الطريق علامة أوكازيون الهوى واللذة، صعدت وأجلسها بجواره على المحرك، فبرزت ركبتاها من تحت التنورة الناقعة القاتلة، المليئة بالنيكوتين الأبيض المتوسط، فحوقل بعض الركاب محتجين، واسترجع آخرون، واستسلمنا لقدرنا المجهول، فقد تحول باصه السكانيا إلى مركبة فضائية فيها قنبلة موقوتة، فجأة برزت سيارة "جيب واظ" عسكرية ستالينية لينينية من تفريعة، وانطلقت باتجاهنا وفي نيتها القتل، وهي تلوب مثل ثعبان مبين، ذات اليمين وذات الشمال، فوقفنا نحن الركاب مذعورين، والسيارة العسكرية تقترب بسرعة ويقترب حتفنا. القواعد المرورية تقضي بأن يبقى أبو حلب على اليمين، لكن الروح غالية والفطرة والمنعكس الشرطي والخوف من الوقوع في الثعبان، دفعته للهرب نحو اليسار، يمين، يسار، يمين، يسار ...إلى أن وقع الاصطدام "البيغ بان" فجَدَعَ الباص أنف السيارة العسكرية المتهالكة جدعا وطوتها مثل علبة كولا.
نزلنا جميعا من الباص، وأبو حلب وجهه بارد، لو طعنته ما نزف منه قطرة دم، لكني أظنُّ أنه كان يغلي من الداخل، فقد صدم الدولة ممثلة بالجيب واظ العسكرية صدما، فوجدنا سائق الجيب واظ وزميله، وهما ضابطان برتب عالية، يئنّان ويلفظان الروح قطرة قطرة بين تروس الحديد المعفوس. كانت السيارة طافحة بالمتاع والهدايا: ثريات، صحون، كؤوس، كلها رشاوى من جند المقاومة والممانعة المجازين إجازات، ومعهما بيض وفروج بلا ريش! كأن القطعة العسكرية كانت مغارة علي بابا.
أخرجنا الجثتين الممزقتين وفيهما رمق، سطحناهما على الأرض ومنهما تفوح رائحة البيض وعجة الحديد واللحم النيئة، اقترب شيخ ملتح يظهر من زيّه أنه سلفي، فجلابيته قصيرة ولحيته طويلة وشاربه محفوف حفاً، وجلس يلقن السائق، وكان أسوأ الراكبين جراحا، الشهادة.. وسمعت شابين من ورائي يتهامسان ضاحكين.
قال الأول: يلقن الكافر الشهادة! الأحسن أن يعُدَّ مثل حكم مباريات الملاكمة..
فقال الثاني: وأنت الصادق.. من أين لهذين الفدانين أن يعرفا الشهادة... على الشيخ أن ينادي كما في المزاد العلني: على أون على دوي... الله ساوى.. دوز دوز
قال الثاني: غني يا شيخ لهما سمرا وين الحاصودة.
الموت واعظ ليس بعده ولا قبله، لكن الشابين ورائي مسروران بالحادثة، شككت في أنهما عسكريان ويضمران حقدا على الضباط الذين يعاملون العسكر المجندين معاملة العبيد في بلادي المعطاء. بل أسوأ فالعبيد لا يُشتمون في شرفهم وناموسهم في السانحة والبارقة.
أثنى أحدهما على أبي حلب: هذا قدر مرسوم باتقان مثل تفاحة نيوتن.. سبحان الله، كفو يا أبا حلب.
لم يتمالك الأول نفسه وانحنى على الشيخ وهمس في أذنه وأشار إلى شيء في السيارة، فوقف الشيخ منتفضا، مجفلا، واستغفر ربه وابتعد عن الجثتين وكأنه رأى ثعبانين مبينين.. نويت أن أبقى وأقدم شهادتي لصالح أبي حلب المسكين الذي لم يتكلم كلمة واحدة من هول الصدمة.
اتصل أحد الركاب بالجهات المختصة، وبعد نصف ساعة جاءت سيارة الشرطة العسكرية وترجّل منها ضابط بزيه العسكري، يتطاير من عينيه الشرر، وجهه وجه شيطان مريد، حالما رأيته تعوذت بالله، ونفرت، نصحني الشاب الأول قائلا: إياك أن تدلي بشهادتك، ستعلق في المحاكم ولن تغني عن الحق شيئا، القضاة في بلدنا مختارون بالملقط الطائفي، فشكرته من أعماقي، وأَسِفت كيف يكون شاب في نصف عمري أحكم مني، وله كل هذه الخبرة. وقررت أن أهرب من الشهادة، حتى لو سألوني سأزعم أني كنت نائما وفوجئت بالحادثة.
قال نوري مقاطعا: خال..
- نعم يا سبعي.. هل ستسأل عن بنت الهوى، هل هزّ السرير جوانبه ونحن في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ أمتنا؟
- لا... ماذا رأى الشيخ يا خال؟
تابعت متجاهلا: المهم أني نفذت بريشي من الشهادة.. ولست بنادم، أبو حلب سُجن، وكان في أسوأ حال، وساءت أكثر عندما سمع أن الضابط الثاني نجا من الموت، وكان قد شهد وهو يحتضر لصالح أبي شام، واعترف بأنَّ السيارة قديمة، وأنَّ زميله الضابط المقتول كان سكرانا، ثم تحسنت صحته وبدّل الشهادة طمعا في التعويضات والديّة والابتزاز، واتهم أبا حلب بالتهور. لكن أمرا جديا طرأ، فقد تقاطرت على أبي شام الهدايا من ناس لم يعرفهم، هم عساكر القطعة العسكرية.. غمروه بالمال والهدايا في السجن لأنه خلصهم من أسوأ ضابطين، ومعظم الضباط السيئون، لكن بشهادة العسكر لم يعرفوا أسوأ منهما مطلقا.
- خال: أول سؤال، ما سبب كون التدخين علامة بيع الهوى التجارية العالمية لدى بائعات الهوى الشمالي والجنوبي والغربي؟
- في فيلم مالينا للمخرج الإيطالي جيوز بي تورنتوي، تجوع مالينا، الأرملة التي تركها زوجها، ولا تجد ما تأكله سوى بثدييها، فتخرج وتلبس أغرى ثيابها وتجلس في مقهى الذكور ثم تخرج سيجارة، عندها يا سبعي تقع الواقعة: وتخرج مئات القداحات والولاعات وأعواد الثقاب من أغمادها لسيجارتها المطعونة في الشفتين الحمرواين، جوابي هو: النار.. نار يا حبيبي نار ، هذه النار حرقت البشر أكثر من نار الحطب.
- حرقتني يا خال، سؤال آخر: ماذا رأى الشيخ السلفي في السيارة، حتى نفر تلك النفرة منها؟
- رحْ هات عشرين صندويشة شاورما سورية فورا من حي الفاتح، موعد الإفطار يقترب، وأخبرك بالجواب يا سبعي.
نزل نوري بعد أن أخذ مني ثمن الصندويشات، سبعي مفلس دوما بسبب إدمان نيكوتين الهوى الشمالي وقطران شارع تقسيم الأبيض المتوسط...
ويلٌ لنا من الاستبدادين السياسي والجنسي: استبداد الفحل الوحيد، و قسوة الصوم الطويل الذي لا ينفع معه وجاء...