هل تتجه أوروبا العجوز نحو التفكك؟

كثيرا ما تُنعَتُ أوروبا بـ"القارة العجوز"، ربما في إشارة إلى قِدم تاريخها، والأرجح كناية إلى توسع القاعدة السكانية لمسننيها وكبار معمريها. فكل الدراسات الإستراتيجية والاستشرافية تدق ناقوس الخطر منذ سنوات إلى اتجاه بلدان أوروبا نحو فجوات ديمغرافية مُهولة في الألفية الجديدة، وأن حاجتها أكثر من ماسة إلى إدخال البُعد السكاني في سياساتها الكبرى. لذلك، تَفقَّهت بعض بلدانها إلى أهمية صياغة سياسات ذكية للهجرة، واعتماد مقاربة متوازنة ونفعية في التعامل مع موجات الهجرة المتنامية. بيد أن أوروبا تجتاحها نزعات حادة، وصلت إلى درجة التطرف أحياناً، تدعو إلى حفظ "نقاء جنسها"، وعدم "تلويثه" بما يفِدُ إليها، ويقتحمُ أراضيها عُنوةً وفي جُنح الظلام، من أقوام وأجناس. لذلك، تبدو أوروبا اليوم، وبشكل أكبر مع تفاقم أزمة اللاجئين الفارين من ويلات الحروب في أوطانهم، منقسمةً على نفسها، بين مؤيد للانفتاح وقبول الوافد، وبين من يدعو بقوة إلى إغلاق الحدود، وإشاعة ثقافة الكراهية ورفض القادم. والحقيقة أن الهجرة لا تعدو أن تكون الشجرة التي تُخفي الغابة كما يُقال.

لنتأمل ما جرى قبل أيام قليلة في بريطانيا، حين أقدم رجل في الخمسينيات من عمره على جريمة قتل نائبة من حزب العمال في مجلس العموم، رميا بالرصاص وطعناً بالسلاح الأبيض، مردداً كلمة "بريطانيا أولاً"، ودون شك ثمة كثيرون مثله، يحملون التفكير ذاته، وقد يلجؤون إلى الممارسة الدنيئة نفسها. حصل هذا في واحة الديمقراطية، وأم البرلمانات، وسيدة الرأي العام وسلطان حرية الإعلام.. بريطانيا العظمى. ولننظر إلى النزعات المُعتمِلة في قاع عديد البلدان الأوروبية المتبرمة من كل ما هو وافد، بل والأكثر خطورة المتسائِلة والداعية إلى التراجع عن كل ما له صلة بالهوية الجماعية التي نحتتها الدول والمجتمعات الأوروبية على امتداد ما يقرب من سبعين سنة، أي منذ اندحار الحرب العالمية الثانية، وتأسيس الجماعة الأوروبية لاحقا (1958). 

من يتابع المُتاح من النقاشات الفكرية والسياسية الجارية بكثافة عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة الأوروبية، يُدرك عمق الأزمة التي اجتاحت عموم أوروبا، وهي، بكل تأكيد سائرة نحو التوسع والامتداد. ولأن "أوروبا العجوز" تمكنت خلال ما يقرب من قرنين من بناء الوعاء الثقافي والديمقراطي الكفيل باحتضان نقاشات أبنائها، والسماح لها بالتعبير عن نفسها، فقد تبلورت ما يشبه التيارات الفكرية المقيِّمة لمسيرة البناء الجماعي والعيش المشترك، والمنادية إما بإعادة النظر في الأسس المتوافق حولها والتي أثبتت الممارسة ضرورة مراجعتها وتجديدها، أو التخلي نهائيا عن حصيلة هذه المسيرة، والعودة إلى أوروبا الأقطار والكيانات المستقلة بسيادتها، وحدودها، وعملاتها، وسياساتها الداخلية والخارجية عموماً.

لنُمعِن النظر في عمق النقاش الجاري حول خروج البريطانيين من حظيرة الاتحاد الأوروبي والانعكاسات المنظورة وغير المنظورة، الممكن والمحتمل وقوعها على القارة الأوروبية والعالم.

يُدافع المنادون بالخروج من الاتحاد الأوروبي من البريطانيين وغيرهم من الأوروبيين على فكرة أن حاجة أوروبا ليس في وحدة هُويتها، بل في تعددها وتنوعها، وأن مصلحة الأوروبيين تكمن في انتسابهم إلى هويات بالجمع، وليس هُوية بالمُفرد. أما حججهم فكثيرة، منها ما لها صلة بالسياسات المشتركة وآليات صناعتها داخل دواليب مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وأخرى لها علاقة  بمواقع وأوزان دولهم في البناء الأوروبي المشترك. فالكثير منهم لم يتردد في التعبير عن الضياع الذي يشعر به أبناء أوروبا في علاقتهم بمؤسساتهم المشتركة في عاصمة الإتحاد الأوروبي "بروكسيل"، حيث تزداد الفجوة وتتعمق خطورتها بين تطلعاتهم وآمالهم في البناء المشترك، والسياسات التي يصنعها القادة في ردهات مؤسسات الاتحاد، بل ذهبوا إلى حد الجزم بأن مطالبهم ورغباتهم في العيش المشترك، الكريم والمتكافئ لا تحظى بأدنى تقدير من قبل صناع القرار وأن إرادة هؤلاء ظلت ولا زالت سجينة أباطرة "العولمة المتوحشة"، مؤسسات وشركات وأفراداً. والواقع أن هذا التقييم الحاد كان موجوداً ومطروحاً منذ سنوات، غير أنه عَلت نغمته، وتضاعفت حدته مع سريان الأزمة المالية لعام 2008، وما تلاها من تأثيرات عميقة على أبنية الاقتصاد، وحياة الأفراد والجماعات.

تُناظِرُ هذه الرؤية ودُعاتها نظرةٌ مغايرةٌ، ترى في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حلقةً مركزيةً، ومقدمةً حاسِمةً في سيرورة انفراط عِقد البناء الأوروبي المشترك، وتراجع "أوروبا العجوز" سنوات إلى الوراء. بل إن الكثير من الأصوات والأقلام حذرت من الزلزال القادم من تغلب إرادة الانفصال والتفكك على استمرار الوحدة والعيش المشترك. لنتصور كيف ستكون أوروبا الموحدة ـ التي تضم اليوم نصف مليار نسمة، ويحتل اقتصادها، رغم عِلله وصعوباته، مرتبة متقدمة في مراتب الاقتصاد العالمي ـ إن تحولت إلى فسيفساء من الأقطار والبلدان؟؟ ولنتصور أيضا حال أوروبا التي ستشكل، إن استمرت موحدة، 5% من سكان العالم عام 2060، كيف ستكون إن هي تحولت إلى قوميات منعزلة ومنفردة؟

ومع ذلك، وعلى الرغم من وجاهة دعاة المحافظة على الوحدة، وواقعية المنادين بالانفصال، التاريخ يقول إن العقل الأوروبي الموسوم بالحكمة والمناشِد بالأخذ بها، سيرسم لأبنائه، دون شك، الطريق السالك لمستقبلهم.. وربما سيفتح النقاش حول جدوى البناء الأوروبي المشترك الباب لانبثاق وعي تاريخي جديد، يُعيد "أوروبا العجوز" إلى سابق شبابها، ويفتح أعين صناع سياساتها على أن العيش المشترك، والهوية الجماعية، يحتاجان إلى إعادة الاعتبار للقيم العميقة للفكرة الأوروبية، أي نبذ العنف والحروب وبناء السلم والاستقرار، وفي الآن معا السعي إلى إدراك كل ما يرفع من شأن الناس ويضاعف رفاهيتهم، ويجنبهم  كظمَ العيش وضيقَه.