كتاب عربي 21

تركيا: الشعب ضد الانقلاب

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
مرة أخرى ينبثق أمل جديد يأتي من تركيا. فالمآل البائس الذي لقيه الانقلابيون بعد تعدد المؤشرات التي تثبت فشل محاولتهم الإطاحة بالنظام المدني والديمقراطي، من شأنه أن يفتح المجال لقراءة مختلفة عن أجواء القلق التي سادت بعد لحظات من الإعلان عن سيطرة الجيش على السلطة.

ما حدث في أنقرة وإسطنبول لم يكن شأنا تركيا خالصا، لأن التطورات الخطيرة التي عرفتها البلاد كانت تحمل ولا تزال دلالات وانعكاسات تتجاوز الإطار الجغرافي الضيق لتشمل الساحة الإقليمية وأيضا الدولية.

فتركيا لا يمكن التعامل معها كدولة مغلقة، وذلك بحكم موقعها الاستراتيجي وعمقها التاريخي وارتباطها الوثيق بمحيطها وبتحالفاتها السياسية والعسكرية التي جعلت منها قاعدة أساسية ومتقدمة للحلف الأطلسي. ولكل هذه الاعتبارات، فإن ما يجري في هذا البلد يتحول آليا إلى شأن إقليمي وعالمي.

في ظاهر الأمر بدا وكأن الانقلابيين قد اختاروا التوقيت المناسب للإجهاز على أردوغان وحزب العدالة والتنمية. فشق من العسكريين لا يزالون يشعرون بمرارة شديدة، ويعتقدون بأن لهم حسابا عسيرا يجب تصفيته مع أردوغان الذي قلص من صلاحيات الجيش وحجم دوره واعتقل العديد من كوادره.

ظن هؤلاء أن جنوح أردوغان نحو الانفراد بالحكم من شأنه أن يوفر عاملا مساعدا لهم، خاصة بعد إقدامه على إبعاد بعض القيادات الأساسية في حزب العدالة والتنمية مثل الرئيس السابق عبد الله غول أو رئيس الحكومة الأخير أحمد داود أوغلو الذي انهمرت دموع العديد من أصدقائه عندما ألقى خطابه الأخير وقدم استقالته للبرلمان بتاريخ 28 آب/ أغسطس 2014، وهو ما كشف عن وجود خلافات عميقة داخل الحزب الحاكم.

كذلك تم تسجيل ارتفاع مشاعر القلق في صفوف الأتراك بعد انتهاء حالة الهدنة بين النظام وبين تنظيم داعش، ما ترتب عنه وقوع سلسلة من العمليات الإرهابية الخطيرة، كان آخرها التفجيرات التي شهدها مؤخرا مطار إسطنبول، وهو ما جعل تدهور الحالة الأمنية يزيد من حدة الاحتقان الاجتماعي التي بدأت تشهدها تركيا منذ أكثر من سنة.

بناء على هذه المعطيات وعلى عوامل أخرى، افترض الانقلابيون أن الظرف أصبح ملائما للقيام بمغامرتهم، خاصة أنهم قد استشعروا احتمال التفطن لنواياهم من قبل الموالين للنظام القائم.

كاد أن ينجح الانقلاب، وذلك بعد أن تمكنت عديد الوحدات العسكرية من السيطرة على أهم المواقع الاستراتيجية في البلاد، إضافة إلى تردد العواصم الغربية في اتخاذ مواقف قوية وصريحة لدعم الشرعية في تركيا، لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر ليجد الانقلابيون أنفسهم معزولين داخليا وخارجيا.

ويعود ذلك إلى عدد من العوامل الرئيسة التي فاجأتهم، وأظهرت قصر نظرهم:

أولا: لم يؤيد الجيش بكل مكوناته ووحداته فكرة الانقلاب على السلطة، وهو ما دفع بالانقلابيين إلى احتجاز رئيس الأركان القريب من أردوغان وعديد الجنرالات الذين رفضوا الانصياع للمحاولة. وقد كان لذلك دور هام في إجهاض المحاولة وعزل أصحابها في عقر دارهم.

ثانيا: استجابة جزء هام من المواطنين، وفي مقدمتهم  أنصار حزب العدالة والتنمية لنداء الرئيس أردوغان، حيث نزلوا بكثافة إلى الشوارع، وتصدوا مدنيا للانقلابيين في تحد صارخ للموت وللآليات العسكرية التي ملأت شوارع المدن الرئيسة. وقد كشف ذلك أن الانقلابيين لم يأخذوا بعين الاعتبار حجم القاعدة الاجتماعية التي يستند عليها الحزب الحاكم، وأسقطوا من حسابهم معطى هاما ويتمثل في أن حزب العدالة والتنمية قد فاز مؤخرا بنبسة تجاوزت الخمسين بالمائة من الأصوات. 

وقد سبق لصحيفة " فورين أفيرز" أن نشرت مقالا تحدثت فيه عن "انقلاب قادم"، وذلك قبل حدوث هذه المحاولة، وأشار يومها صاحب المقال إلى ملاحظة هامة لم ينتبه لها الانقلابيون، وذلك حين ذكر أن "الجيش التركي يعرف بشكلٍ جيّد أنّ أيّ تدخّل ضدّ أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي نال حوالي 50% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة سيحظى بالقليل من الدعم الشعبي وسيحطّم جهود الجيش لاستعادة موقعه في المجتمع".

ثالثا: وقوف الطبقة السياسية بجميع مكوناتها ضد الانقلابيين الذي وجدوا أنفسهم معزولين سياسيا، حيث لم يساندهم أي فاعل سياسي، بما في ذلك حزب الشعب المعارض بشدة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية. وقد عكس ذلك نضجا سياسيا رفيع المستوى، لأن الجميع أدركوا أن الانقلاب إذا نجح فإنه لن يستهدف فقط الماسكين حاليا بالسلطة، وإنما سيؤدي في النهاية إلى عودة العسكر إلى الحكم، وبالتالي إلغاء الديمقراطية أو تقليصها إلى الحد الأدنى من خلال الدستور الجديد الذي تحدثوا عنه في بيانهم رقم واحد.

رابعا: صحيح أن الحلفاء الرئيسيين لتركيا من الغربيين ترددوا في البداية، ولم يسرعوا في اتخاذ مواقف مساندة وقوية للشرعية مثلما فعلوا في السابق وفي عديد المرات، واكتفوا بإصدار رسائل مائعة وغير واضحة، لكن ما إن توفرت لهم المعطيات الدالة على الفشل المحتمل للانقلابيين، حتى بادرت العواصم الأساسية في أوروبا وصولا إلى واشنطن بإصدار بيانات واضحة تدين الانقلاب وتدافع عن الديمقراطية التركية. وهو ما جعل الانقلابيين يفقدون أي مظلة دولية كانوا يحرصون على الوصول إليها عبر قولهم بأنهم سيحترمون كل التعهدات الخارجية لتركيا.

هكذا يتبين أن الانقلاب الفاشل لم يكن يملك أي مقوم للاستمرار والنجاح، وهو ما استغله أردوغان بشكل واسع. ولهذا، ما إن يعود الوضع إلى حالته الطبيعية حتى يشرع أردوغان في تصفية حساباته بشكل واسع، ليس مع الانقلابيين فقط، ولكن مع كل من سيقف في وجهه ويحاول منعه من أن يحكم البلاد بدون منازع.  
0
التعليقات (0)